صفية العايش: وسْط البلاد.. دمار الحرب و”الإعمار”
“كنا نتطلع بلهفة إلى متعة الاستحمام بالماء الساخن والنوم على أسِرّة ذات ملاءات نظيفة، وإلى الإسراع لشراء الحاجيات من متاجر المدينة. ولكننا ما إن انطلقنا نتجول بسياراتنا خلال شوارعها الخالية حتى بدأت الحقيقة تتّضح لنا شيئا فشيئا.. فقد أدركنا أن مدينة بنغازي أيضا قد حل بها الخراب، ولم تعد تبدو عليها سمات المدينة؛ ذلك أن الغارات المدمرة قد اجتاحتها فتركتها أنقاضًا خاوية، فقد كانت الأسواق مغلقة والمتاجر موصدة الأبواب.. ولم يكن في طريقنا إلا الخراب”.
المراسل الحربي الأسترالي آلان مورهيد (الحرب العالمية الثانية -1941)
يدرس علم الاجتماع اللساني العلاقات التي تفصل بين ثلاثة متغيرات: الذات والمجتمع واللغة، حيث يتشكل من خلال هذه العلاقات فضاء اجتماعي يتضمن المعايير الثقافية واللغة وبنية التفكير كمحددات لواقع المجتمع، وهو ما يتقاطع بطريقة ما مع علم آخر هو علم النفس المعماري؛ الذي يستكشف تأثيرات الفراغ المعماري على البشر ويعكس مشاعرهم وسلوكياتهم، فتصبح المجتمعات مرتبطة بالبناء المعماري لمدنها الذي يعكس في الغالب طريقة تفكيرها ومشاعرها إزاء المكان وتحولاته. حيث الوجود الرمزي من خلال اللغة لا يقل في الأهمية عن الوجود المادي من خلال الهيكل المعماري الذي يتخذه الناس للتعبيرعنهم ويعكس في المقابل تاريخهم وهويتهم العمرانية، والتي يبدو أنها في بعض الأحيان تتعرض للتغيّر والتجريف لأسباب متعددة أهمها؛ هو الحرب التي تخلّف دمارًا هائلا في مراكز المدن الحضرية.
تبدو مدينة بنغازي أكثر الأمثلة حضورا في السياق الليبي من خلال ما تعرض له مركز المدينة “وسط البلاد” من دمار جرّاء الحرب التي امتدت منذ أكتوبر 2014 إلى يوليو 2017، والتي خلّفت في هيكل المدينة توترات كبيرة، وأدت إلى تحول مركز المدينة جرّاء ذلك إلى كومة من الخراب.
ورغم عراقة المكان وإحالته إلى حقب تاريخية مختلفة، إلا أن جهاز إعادة اعمار المدينة والقائمين عليه قرروا قبل أسابيع ألا يرمم أي شيء، بل اكتفوا بإزالة المباني المتضررة ومطالبة سكان المنطقة بالخروج مقابل تعويضهم بمبالغ زهيدة.
من طاعون 1858 إلى طاعون الحرب
أخذتُ على عاتقي مهمة البحث داخل كتب والدي القديمة، وجدت في أحد الصناديق كتابا بغلاف برتقالي تعود طبعته الأولى إلى سبعينات القرن الماضي، تجثُم على غلافه صورة هيرقل وهو يستريح داخل بستان هسبيريدس “بنغازي”، بعد أن قام بقتل أحد الثعابين الذي يجثم في المقابل، مُعلّقاً على جذوع أحد الأشجار، في منتصف اللوحة.
كانت أولى صفحات الكتاب تحوِي إهداءً وتوقيعاً من أحد أصدقاء والدي القدامى الذين سكنوا بنغازي أو ربما درسوا بها، ثم يسرد الكتاب أسماء مدينة بنغازي عبر التاريخ: هسبيريدس، برنيتشي، برنيق. والتي يضيف إليها الكاتب محمد بازامة في كتاب آخر أسماء أخرى مثل: كوية الملح، ومرسى ابن غازي.
تُحيل هذه الأسماء إلى حقبٍ مختلفة، من جنات البساتين والتفاح الذهبي والبحيرات إلى التحول البطيء لمسطحات ملحية “سبخة” بفعل الجفاف وعوامل التعرية، وصولا إلى اسم “ابن غازي” الذي يرجع بدوره إلى تأثر المدينة بالطابع الصوفي الذي يتخذ قبور الأولياء كمزار للتبرك، فقد اشتهر عن بنغازي وجود زوايا صوفية لطرق متنوعة منها الطرق العروسية والعيساوية والسعدية، قبل أن تُنشأ أول زاوية سنوسية بها عام 1870 قبل موجة الطاعون الثانية التي غزت المدينة بأربع سنوات. تحولت المدينة بعد ذلك بعقود طويلة إلى عاصمة ثانية للبلد حسب دستور المملكة الليبية بعد نيل ليبيا استقلالها سنة 1951، قبل أن يتم اعتبار طرابلس عاصمة وحيدة للبلاد لاحقًا.
تبدو بنغازي اليوم بفعل عمليات التخريب بسبب الحرب والإزالة التي طالت مبان كثيرة في مركزها، مشروعًا للاستثمارات الأجنبية التي تسعى وفق كثيرين إلى تحوّل المدينة إلى “مدينة سوق”، حيث يفقد المكان هويته لصالح تعزيز النمط الاستهلاكي.
تقول فايزة (52 عامًا) إن عائلتها سكنت ببنغازي منذ الأربعينات، وتعلق على أعمال الهدم قائلة : “لقد هدموا أبرز معالم المدينة، كنا نظن أنهم سيرممونها، لقد صدقنا أوهام الترميم حتى وجدنا الجرافات تهددنا بهدم كل شيء”.
وتضيف قائلة : “ثمان سنوات كاملة ومنطقة وسط البلاد نصف مدمرة، أنا أتفهم أن هناك مبان مهترئة بفعل الحرب ولا يمكن ترميمها، ولكنني أرى أن هناك مبان كثيرة كان من الممكن الحفاظ عليها، فهذه المباني تمثل تاريخا للمنطقة”. كما أنها لا تستبعد أن تكون الخطوة القادمة هي تغيير أسماء الشوارع في ظل غياب الشفافية، مما يجعل الناس في حالة تخبط؛ فلا وجود لمشروع واضح، والشائعات تزداد حدة.
بيوت تاريخية وهدم عشوائي
طالت أعمال الهدم سوق الربيع (السوق الجديد سابقا)، بالإضافة إلى سينما برنيتشي ومجموعة من المنازل، في ظل وجود تخوف كبير من إزالة مسجد بن كاطو – رغم ترميمه سابقا خلال العام 2020 – ومبنى البرلمان البرقاوي، في حين يبدو أن مبان أخرى مثل مبنى البلدية غير قابل للترميم بسبب حجم الضرر الكبير الذي لحق به جراء الحرب.
يُقدّم منذر منينة (28 عامًا) قصة منزل عائلته الذي يقع في شارع قصر حمد بمنطقة وسط البلاد، والذي كان شاهدا على أحداث تاريخية مفصلية، والذي أصبح مُهدّدًا بالإزالة بسبب اللجنة المكلفة بإعادة اعمار المدينة.
بفضل “حوش منينة” تم إيقاف الحرب الأهلية التي دارت رحاها في الجبل الأخضر، وامتدت لثلاث عقود متواصلة (1860م – 1890 م).
يقول منذر: “عمر منزل أجدادي تجاوز 200 سنة وكان شاهدا على أحداث تاريخية هامة لا يمكن إهمالها والتفريط فيها“. ويضيف: ” في حوش الجد سليمان منينة اجتمع شيوخ بنغازي للرد على رسالة البوارج الإيطالية التي خيّرت أهالي بنغازي بين الاستسلام أو الحرب سنة 1911، فاتفق شيوخ بنغازي أثناء اجتماعهم داخل البيت على الجهاد”، وبسبب هذا الإعلان الذي انطلق من هذا المنزل حدثت أولى المعارك في بنغازي ضد الاحتلال الإيطالي (معركة جليانة الشهيرة)، واعتقل على إثرها الشيخ سليمان منينة بعد ذلك وتم نفيه إلى إيطاليا وتوفى هناك.
ويختتم منذر كلامه بحدة قائلًا: “بعد كل هذا التاريخ لا يمكن التفريط في منزل العائلة، ولا معنى لأي مبلغ تعرضه الدولة”.
الإجهاد النفسي ومدن السوق
تتعرض المدن التي خرجت من رحى الحرب إلى نوع من الإجهاد السيكولوجي، فيعيش سكان هذه المدن مرحلة ما بعد الحرب في حالة نفسية مختلفة، يسميها مارك جاكسون بـ”زمن التوتر”؛ حيث يشعر سكان المناطق المدمرة أنهم دائما في حالة تهديد، خصوصًا مع تأخر أعمال الصيانة وعدم وجود نوع من الشفافية والمرونة الحكومية التي تجعلهم على دراية بمصيرهم، وهو ما يبدو واضحا من خلال انتشار حالة الذعر في صفوف السكان الذين يجدون أنفسهم مبعدين عن عملية إعادة إعمار مدنهم وقراهم لصالح شركات أجنبية تسعى فقط للإستثمار، وذلك بشراء العقارات والمنازل بمبالغ زهيدة في محاولة لتغيير المدينة وتحويلها من عرض عمراني ذو دلالات تاريخية متعددة إلى مجموعة من الصناديق الأسمنتية الضيقة والخالية من أي تعبير ثقافي.
يتحول هذا الأمر في حالة أبناء بنغازي القديمة إلى هاجس لا يمكن تلافيه إلا بخروج المسؤولين وإيضاح مخططات إعادة الإعمار وأسماء الشركات والجهات المسؤولة عن عمليات الإزالة، حيث يمكن أن تتجنب المدينة من خلال عرض المعلومات وتعزيز الشفافية مشاعر اليأس والإجهاد النفسي التي تغزوا سكانها منذ بداية الحرب التي دمّرت النسيج الإجتماعي وأدّت إلى تحوّل منطقة وسط البلاد إلى ما يشبه الرّكام.
إرسال التعليق