حكاية ناجية من عمارة برج الشاطئ بدرنة
بعد سبعة أشهر من وقوع كارثة إعصار دانيال والتي يصفها كثيرون بنكبة درنة، يعيش الناجون والناجيات أثر ما بعد الصدمة، ويواجهون تحديات حياتية يومية بعد دمار نصف المدينة في ظل تقاعس الدولة عن أداء دورها بإعادة اعمار المدينة رغم تخصيص مبالغ طائلة لها.
في ما يلي سرد لقصة آمنة الغيثي، على لسانها، فتاة ناجية من الإعصار تروي لنا تفاصيل مروعة لقصة نجاتها هي وأسرتها وجيرانها في عمارة برج الشاطئ الجنوبية التي ابتلعها البحر.
“أكثر شيء ضرنا كدرناويين عدم الوعي بخطورة الوضع، لم نأخذ الأمر على محمل الجد، حتى إن السلطات المحلية في المدينة فرضوا حظر تجول في يوم العاصفة لحمايتنا، وكانت الجهات الحكومية تطمن فينا، وفي ذات الوقت نبّهوا بضرورة إخلاء بعض أحياء المدينة التي تقع على جانبي الوادي عند بداية السد والأحياء السكنية التي تطل على البحر خوفا من ارتفاع منسوب مياه البحر؛ أما بقية الأحياء السكنية خاصة التي تقع في ذيل الوادي طلبوا منّا عدم الخروج من بيوتنا، وهذا الذي سبب في الكارثة وموت الناس بالآلاف.
كنا سعيدين بالمطر والأجواء الشتوية الجميلة، ما كنا نتصوروا أن هذه الأمطار ستسبب في خسارتنا لنصف المدينة، الكل كان يتصور أن تتسرب المياه من الروشن وبس، حتى إنني كنت مصرّة على عدم الخروج من البيت، ما كنت حاسة بخطورة الوضع وكنت على اتصال مع عمي رحمه الله وكان يحذر فينا من عدم الخروج للشارع وأننا نبقوا على اتصال معاه.
بعد الساعة الثامنة مساء من يوم 10/9/2023 ازدادت قوة الأمطار وبدأت الشوارع تغرق وقوة دفع المياة يحرك في السيارات المرصوفة في الشارع، ولكن لا يزال الوضع غير خطر.
وعند منتصف الليل، انقطعت الكهرباء على كل المدينة وكنت نسمع في أصوات فرقعة محطات الكهرباء للشارع وكان الوضع يزداد خطورة.
شقتنا أنا وخوتي في الدور الأول من العمارة، وبطبيعة الحال مهددين بدخول المياه في أي لحظة، لهذا طلبت منّا جارتنا ضرورة الصعود معها لشقتها في الطابق الخامس، وأخبرتني أن كل سكان العمارة اتفقوا أنهم يتجمعوا مع بعض في الطابق الخامس بحيث تكون النساء في شقة إحدى الجارات، والرجال يراقبون منسوب المياه في الممر الخارجي للدور.. إلى تلك اللحظة، وعلى الرغم من خطورة الوضع إلا أنه كنّا مطمئنين لدرجة كنا ناخذوا في صور للذكرى. بعدين سمعنا بارتفاع منسوب المياه فجأة من الدور الأول إلى الدور الثالث، عند الساعة واحد ونص صباحاً كانت العاصفة تشتد وحسينا بالذعر من صوت الريح والرعد والبرق ومنسوب المياه اللي يرتفع بشكل متسارع؛ لذا اضطرينا للصعود لسطح العمارة تحت المطر، كان الوضع كأنه مشهد من فيلم رعب و كنا مذهولين من الصدمة.
لاحظت بعض الجارات ملامح من الشارع، على الرغم من الظُلمة، إلا أنهم لاحظوا سقوط عمارة درنة التي في شارعنا، وشافوا غرق أحد بيوت الجيران وهم بداخله يصرخون ويستنجدون، كانت المشاهد صادمة والأطفال في حالة بكاء مستمر وخوف شديد.
مع اشتداد العاصفة بدأت عمارتنا المعروفة باسم عمارة برج الشاطئ الجنوبية بالتأثر بشكل كبير، وبعض البلكونات سقطت وحسينا بهزات كبيرة، لذا انتقلنا للعمارة التي بجانبنا وهي تشترك في نفس السطح مع عمارتنا وكانت أكثر ثبات، وتفاجأنا مع نهاية العاصفة عند الساعة الرابعة فجراً، أنه مفيش أثر لعمارتنا وابتلعها البحر دفعة واحدة، الحمد لله إن العمارة يعتبر فيها أكثر عدد من الناجيين لأننا انتبهنا منذ البداية لتصدعاتها وانتقلنا للعمارة الملاصقة لنا.
عملية الخروج من العمارة كانت صعبة جداً، خاصة مع الظلام وكنا حفاة والأرض زلِقة، كنا نمشوا بحذر شديد، كنت مذهولة من تغير الشارع لدرجة لم أتعرف على شارعنا، وكان البحر جداً قريب
مع انجراف التربة تشكلت زي الهوة في الأرض، حسينا كأنه يوم القيامة ووجوه الجيران كانت مرعوبة و بعضهم كان مُصاب، وكلنا مبلولين من المطر وكان البعض من قوة دفع المياه تجردوا من ملابسهم في مشهد سريالي صادم.
الطريق كانت وعِرة، وقطعنا مسافة طويلة بالمشي في الظلام، والبعض من قلة الانتباه سقط في فتحات الصرف الصحي، اللي من قوة المياه وانجراف التربة انفتحت أغطيتها وأصبحت مكشوفة، كنت طوال الطريق انّبه في خوتي كي لا يقعوا فيها. وعند ساعات الصباح الأولى، وصلنا إلى مدرسة وتم تقديم المساعدة لنا من أهل المنطقة.
قضينا بقية اليوم في حوش جدي الواقع في منطقة شيحا، لم تتضرر المنطقة من الأمطار وكأنه كنّا بعالم وهم بعالم آخر، كنا مشغولين البال على أهلنا في منطقة البلاد، وكنا ننتظروا في عمي وأسرته ليصلوا في أي لحظة لحوش جدي.. لكن للأسف توفاهم الله جميعاً.
كان الوضع صعب جداً في المدينة مع انقطاع الكهرباء والإنترنت، لذا انتقلت أنا وخوتي لمدينة طبرق، وكان همي الأول والأخير أن أساعد المحتاجين، فاستخدمت صفحتي على تويتر ونشرت فيديوهات أثناء خروجنا من العمارة، وحاولت أن أنقل للعالم الوضع المأساوي الذي عشناه في تلك الليلة.
ومن ثم حاولت الربط ما بين الجهات التي كانت تريد تقديم المساعدة ومابين الناجيين بحيث تصلهم المساعدات، أو النازحين بحيث يتحصلون على أماكن للإقامة بها خارج درنة.
أكثر شي يؤلمني فقداني لواجد ممتلكات قيمتها المعنوية عالية، فقدت كل ذكرياتي مع ماما وبابا رحمهما الله، كلاهما توفى قبل الكارثة وكنا محتفظين ببعض ملابسهم وأشياء خاصة بهم لسنوات، وفقدت كل ألبومات الصور اللي توثق في ذكرياتنا معاهم.. البيت ممكن يتعوض ولكن هذه الأشياء ما تعوض ومكتوب علينا أن نتعايش ونتأقلم مع الحياة في ظل كل ما يحدث، ومكتوب علينا أن نقاوم أثر الصدمة ونتعافى منها على خاطر درنة الزاهرة”.
إرسال التعليق