الولادات القيصرية في ليبيا
تتزايد في ليبيا الولادات القيصرية حتى في غياب الأسباب الطبية التي تبرّرها، حتى صار المشهد مألوفًا في المستشفيات العامة والعيادات الخاصة على حدّ سواء، متمثّلًا عادةً في أمّ تدخل غرفة العمليات في موعد محدد، تُخدَّر لساعات تُجرى خلالها عملية جراحية، لتخرج من العيادة بجرح صغير وطفل جديد. الجراحة التي كانت تُجرى في حالات الطوارئ لإنقاذ حياة الأم أو الجنين، صارت اليوم في أغلب الأحيان تُحدَّد مسبقًا كما لو أنها موعد تجميلي، أو حلٌّ آمن يُجنّب الألم والمخاطرة.
وفقًا لدراسة ميدانية أُجريت في مدينة الزاوية عام 2022 على عينة من 175 امرأة بعد الولادة، بلغت نسبة الولادات القيصرية نحو 70.9 في المئة، وهي نسبة تفوق بأكثر من أربعة أضعاف المعدّل الذي توصي به منظمة الصحة العالمية، والتي ترى أن المعدلات الآمنة تتراوح بين 10 و15 في المئة فقط. وفي دراسة أخرى نُشرت في المجلة الليبية للعلوم الطبية عام 2018، وُثّق أن نسبة العمليات القيصرية في مستشفى الوحدة بمدينة درنة وصلت إلى 23.5 في المئة خلال الفترة بين 2013 و2016، وهو ما يؤكد وجود تفاوت كبير بين المناطق والقطاعات.
ثمّة خوف متوارث من الولادة الصعبة لدى الليبيات، ترافقه حكايات تتداولها النساء جيلًا بعد جيل حول معاناة الولادة الطبيعية ومخاطرها. هذا الخوف، النابع أساسًا من ضعف التثقيف الصحي، جعل العملية القيصرية تُرى كعلامة رفاهية أو دلالة على القدرة الاقتصادية للعائلة. ولذلك تحوّلت من تدخّل إنقاذي إلى نمط اجتماعي جديد، تُمارَس فيه الطبابة كما لو كانت استجابة لرغبات السوق لا لحاجات الجسد.
يرتبط هذا الارتفاع الحاد بخليط من الأسباب الاجتماعية. فالكثير من النساء يُجبرن على اتخاذ القرار تحت ضغط الوقت أو الخوف من المضاعفات، في ظل ضعف التثقيف الصحي أثناء الحمل وغياب التواصل الكافي مع الأطباء. وفي المستشفيات الخاصة التي تجد في العمليات القيصرية ربحًا مضمونًا، يتحوّل الزمن إلى سلعة؛ فكل عملية تُنجز بسرعة تتيح للطبيب استقبال حالة جديدة، وذلك في مقابل الولادة الطبيعية التي قد تمتد لساعات طويلة. أما العائلات، فغالبًا ما تستسلم لفكرة أن الألم بات غير ضروري في عصر الطب الحديث. وفي أحيان كثيرة، يُضاف إلى ذلك عامل اجتماعي خفيّ يتمثل في واقع أن “كل صديقاتها أنجبن بالعملية”.
تقول طبيبة النساء والولادة هند البوسيفي: “الإقبال على الولادة القيصرية أصبح ظاهرة مقلقة في مجالنا، ورغم محاولاتنا كأطباء توعية المقبلات عليها، لكن في كثير من الأوقات الخلفية النفسية والاجتماعية اللي جاية بيها الحالة تغلب كل نصائحنا. وتحوّلت القيصرية إلى نوع من (الموضة) بين النساء، خاصة المقتدرات ماديًا. في مرة كانت إحدى المراجعات تصرّ على الولادة القيصرية رغم عدم وجود دواعي طبية، إلى أن تعذّر على زوجها دفع التكاليف فذهبت إلى الولادة الطبيعية مجبرة”.
ومع انتشار عدة إحصائيات تحذيرية، ترى هند أن كل الدراسات والمسوح المُعلَن عنها لا تعكس إلا جزءًا بسيطًا من حقيقة الأزمة على الواقع. وتضيف: “من غير المنصف إلقاء اللوم على الحالات دون الحديث عن دور بعض الأطباء والمصحات والمستشفيات التي تشجع على استشراء هذه الظاهرة، لغايات الكسب المادي على حساب الصحة الإنجابية للمراجعات، ولأسباب أخرى مثل نقص كوادر التمريض وغياب الخبرة في التعامل مع فترة المخاض”.
الولادة الطبيعية تجربة تُربط بذاكرة أقدم من الطب نفسه؛ ذاكرة تجعل من الألم بدايةً للحياة لا نقيضًا لها. في تلك اللحظات التي يتناغم فيها الجسد مع تقلصاته، تستعيد المرأة ثقتها بقدرتها على الخلق، وتكتشف أن الولادة ليست امتحانًا للقوة بقدر كونها احتفالًا بها. أما القيصرية، رغم ضرورتها في كثير من الحالات الطبية، فهي عملية جراحية كاملة بكل ما تعنيه الكلمة من تدخل وقطع وتعافٍ طويل. يمتد أثرها إلى النفس، وإلى شعور مبهم بالفصل بين الجسد والحدث، وكأن الولادة وقعت خارج الوعي. بعض الأمهات يتحدثن عن إحساس بالحرمان من لحظة الدفع أو من اللقاء الأول الفوري مع المولود، بينما تعاني أخريات من صعوبات في الحركة أو الرضاعة في الأيام الأولى، أو من آثار الندبة التي تذكّرهن يوميًا بالعملية.
المسألة ليست في الخيار الأسهل كما هو متداول، بل في الحاجة والضرورة. حين تتحوّل الضرورة الطبية إلى عادة اجتماعية، تفقد العملية الإنجابية معناها كحدث إنساني فريد. وبين الألم والخوف، وبين الراحة السريعة والمخاطر البعيدة، يبقى الخيار الأكثر صحة هو الخيار المستنير؛ أي أن تُتخذ القرارات بناءً على معرفة وباحترام للجسد، لا استسلامًا للموضة أو ضغط المستشفى أو نصائح الصديقات.


