“النظرية العالمية الثالثة”
لم تتوقف صورة معمر القذافي منذ 2011 عن التحوّل في الوعي الليبي. من ديكتاتور انتهى حكمه بمشهد دموي صادم، إلى بطل قومي يُستدعى بدافع الحنين مع كل هزيمة سياسية وأمنية تلت فبراير، وصولًا اليوم إلى مرحلة ثالثة أكثر تعقيدًا، إذ تظهر أصوات ليبية شابة، كثيرٌ منها كان في سن الطفولة زمن الثورة، وهي تعيد قراءة الكتاب الأخضر كوثيقة فلسفية تقترح صيغة سياسية بديلة، يُقال إن فشلها ليس بسبب عيوبها، بل لعجز الليبيين عن فهمها أو تبنّيها.
تدّعي هذه القراءات استحضار زمن القذافي كمراجعة عقلانية، فتظهره بوصفه مفكرًا سبق زمانه، وتُعرض تجربة عهده باعتبارها مشروعًا نظريًا معطلًا أكثر من كونها ممارسة سلطوية. اللغة المستخدمة فيها تُزيح القذافي من موقع المسؤولية السياسية، وتضعه في موقع المفكر المختلف عليه، وهي بالتالي تنقل التجربة من حيز التاريخ الملموس إلى حيز التأويل الفكري، واعتبار الاتفاق أو الاختلاف على عهده ليست سوى وجهة نظر.. طبعا هذا في أفضل الاحتمالات.
خطورة هذا التحول تكمن في التطبيع مع منطق يرى أن المشكلة ليست في السلطة حين تنفرد، بل في المجتمع حين لا يرتقي إلى مستوى الفكرة، وهو منطق يجعل من التجربة السياسية مادة للتأمل المجرد ويحيّد أسئلة المسؤولية والمحاسبة والآثار طويلة المدى لصالح نقاش يبدو فكريًا في ظاهره، لكنه في الأصل يعيد إنتاج سردية قديمة بمعطيات جديدة. ومن هذا المنطلق تبدأ الحاجة للتوقف عند الطريقة التي يُعاد بها بناء التجربة في الوعي العام اليوم.
النظرية العالمية الثالثة، كما قدّمها القذافي في الكتاب الأخضر، تنطلق من تشخيص يُلامس قلقًا حقيقيًا عاشته مجتمعات كثيرة في القرن العشرين ونعيشه نحن اليوم بشكل أكبر وأوضح. إنه شعور واسع بأن الديمقراطية التمثيلية لا تحقق وعدها، وأن البرلمانات تتحول إلى نخب مغلقة، وأن صندوق الاقتراع لا يعكس دائمًا إرادة الناس. يمنح هذا التشخيص النظرية جاذبية فكرية، خصوصًا في سياقات ما بعد الاستعمار. لكن الإشكال يكمن في المسار الذي اتخذته الفكرة بعد تطبيقها.
تقوم النظرية العالمية الثالثة على افتراض أن المجتمع كيان واحد متناسق، يتحرك أفراده بالمنطق نفسه، وتجمعهم مصالح مشتركة لا تتصادم. هذا التصور يتجاهل واقع أن المجتمعات تتكوّن من طبقات وجهات ومصالح متقاطعة، وبأن الاختلاف جزء بنيوي من أي حياة سياسية حقيقية وليس عارضًا طارئًا عليها. يُقصى هذا الافتراض كل أشكال التنظيم الوسيط، فلم يعد ثمة مكان للأحزاب كتعبير عن مصالح متباينة، ولا للتعددية بوصفها اعترافًا بشرعية الرأي الآخر، ولا للتنظيم المستقل كمساحة خارج سيطرة الدولة أو الفكرة الرسمية. أي أن ما لا ينسجم مع صورة الشعب الواحد يمكن أن يُعاد تعريفه كتشويش على الصف، أو كعقبة أمام الانسجام المزعوم. وبهذا لا تعود السياسة ساحة نزاع مشروع تُدار فيها الخلافات ضمن قواعد متفق عليها، بل تتحول إلى اختبار ولاء للجماعة.
في النقاشات الدائرة حول النظرية العالمية الثالثة في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي اليوم، وفي ظل فراغ سياسي كامل يتصارع فيه أفراد محددون، أعيد تقديم المؤتمرات الشعبية كنموذج ديمقراطي أصيل ومغاير للتجارب المستوردة التي أنهكت البلاد منذ الانتخابات في 2012. لكن الحقيقة أن هذه المؤتمرات الشعبية في الواقع لم تعمل يومًا كفضاء لصنع القرار بقدر ما أدّت وظيفة إضفاء الشرعية على النظام. فهي كانت منصة يُطلب من الحاضرين فيها الموافقة والتوقيع وتأكيد ما جرى تحديده سلفًا في مكان آخر. أما اللجان الشعبية، والتي قُدّمت بوصفها الذراع التنفيذي لإرادة الناس، فقد بُنيت كحلقات في تسلسل هرمي مغلق يتحرك من الأعلى إلى الأسفل، وليس كأجهزة خاضعة للمساءلة أو قابلة للمحاسبة؛ صلاحياتها نابعة من موقعها داخل منظومة ولاء يبقى القرار النهائي فيها قابلًا للتعليق أو التعديل أو الإلغاء من مركز واحد يحتكر حق التأويل باسم مصلحة الثورة.
الأخطر في بنية النظرية أنها لم تترك لنفسها أي هامش للخطأ. فهي ليست اجتهادًا فكريًا قابلًا للاختبار والمراجعة، بل صيغة مكتملة تُعلن نهاية التطور السياسي وتغلق الباب أمام أي فكرة تأتي بعدها. وبالطريقة نفسها صارت ليبيا حقلًا مغلقًا تُطبَّق عليه أفكار كبرى دون أدوات تصحيح ذاتي. فأُزيح الدستور باعتباره وثيقة برجوازية، وعُلّق القانون بدعوى تجاوزه، وأُفرغ المجال العام من نخبه المستقلة إما بالإقصاء أو الاحتواء. جُرّد المجتمع تدريجيًا من أي قدرة مؤسسية على الدفاع عن نفسه أو على إنتاج بدائل، فصار متلقيًا لا شريكًا. وعندما بدأت التناقضات بالظهور بين الشعار والواقع، وبين الخطاب والممارسة، لم يُفتح نقاش حول صلاحية الفكرة ذاتها. بدل ذلك، وهو أيضًا ما يحدث اليوم في المراجعات السياسية لدى شريحة من الناس، جرى نقل المسؤولية إلى الخارج؛ إلى القبيلة التي لم تتجاوز بدائيتها، إلى التخلّف الحضري، إلى العرب بوصفهم كتلة تاريخية فاشلة، وإلى شعب لا يستحق الفكرة العظيمة، كما أخبرنا القائد في إحدى المؤتمرات الشعبية العامة ذات يوم. لقد حُصّنت النظرية من النقد، وتحولت من مشروع سياسي إلى عقيدة تُبرَّر دائمًا على حساب المجتمع. ولذلك فإن اختزال فشل التجربة في مقولة سوء التطبيق هي في الأصل إعادة إنتاج للمنطق نفسه الذي حكم التجربة منذ بدايتها.
النتيجة طبيعية: غياب المؤسسات المستقلة، وتجريم التنظيم، وإلغاء القانون بوصفه مرجعية عليا. هذه عناصر مهّدت لتفكيك الدولة. وما إن تآكل الإطار النظري الذي كان يضبط هذا الفراغ، ظهر الواقع على حقيقته: سلطة بلا دولة، ونفوذ بلا قواعد. ومن هنا يمكن قراءة شخصيات مثل خليفة حفتر وعبد الحميد الدبيبة وسائر أمراء الميليشات المُسيطرة على الواقع كتشوه فرضته ظروف ما بعد 2011. هم، كلٌّ بطريقته، امتداد مباشر لمنظومة سياسية جعلت الإرادة الفردية بديلًا عن القانون، ورسّخت فكرة أن الحكم شأن شخصي لا عقدًا عامًا.
إعادة قراءة حقبة القذافي اليوم مهمة أكثر من أي وقت مضى، وذلك عبر تفكيك ما فعله فعليًا في بنية الحكم. في النموذج الذي قدّمه صار الحاكم مفكّرًا يحتكر تفسير الواقع ويمنح نفسه موقع المعلّم الذي يعرف ما لا يعرفه الناس عن مصالحهم، فتحوّل خطابه إلى أداة حكم وأصبحت الفكرة نفسها سلطة غير قابلة للنقاش لأنها أعمق من أن تُفهم، ولا تُحاسَب لأنها بديل منزّل وشامل لكل ما سبقها. إن أي إصرار على تبرئة النظرية من آثارها العملية هو استعداد لإعادة القبول بالمنطق نفسه الذي فرض علينا سلطة بلا قيود، تتغيّر أسماؤها، لكن بنيتها تبقى واحدة.


