الجد الصغير الغامض، عن حضارة ليبيّة منسيّة
بقلم / منصور بوشناف
وهو يستلقي على ظهره في راحة يدي بدا جد الجرمنت “جراما” صغيرا، مُضغة تاريخ طويل من الانزواء والانكماش، وحيدا ومستسلما وسط صحراء يدي الجرداء. تحدق عيناه الصغيرتان في وجهي، وكأنما يتعرّف على ملامحي، كان كائنا شديد التركيز والكثافة، صلبا رغم خفته وضآلة حجمه، وحيدا كنبتة في “صحراء يدي”.
قلت له ساخرا: هل امتصّ الجفاف العظيم كل ما فيك، ثم ألقى بك إلى راحة يدي القاحلة؟ ما الذي سأفعله بك الان؟ هل أعلّقك تعويذة أم أجعلك ميدالية مفاتيح؟ وماذا لو علّقتك مشنوقا بمرآة سيارتي؟ لن يسأل أحد عنك وعمّن تكون؟ لن يرونك إلا أيقونة مزورة ولا قيمة لها!
تمثال “جراما” الصغير نحتٌ من خشب ممتاز، لامع وصلب، نُحِتَ جيدا وبدت ملامحه واضحة وجليّة، رغم ضآلة كل شيء فيه. العينان صافيتان كبحيرة وسط الصحراء، بل ربما تكونان حقا صورة لبُحيرتين، الأنف منتصب ولا اعوجاج فيه، فمٌ أنيق، كان حقا مَلِكا رغم ضآلة كل شيء فيه.
ايها الجد الصغير العزيز “جراما” يا جدّنا المجيد رغم ضآلة كل ما فيك، قلت له بصوت عالٍ، فقال لي مدير المتحف: أعد تمثال جدّنا إلى مكانه!
حين أعدتُ منحوتة “جراما” -جد الجرمنت الصغير- إلى مكانه خلف الزجاج، رأيتُ نسور “زنككره” تدوم فوق رأسي، كان “جبل زنككره” يحمل على كاهله إرث بدايات “جرمة“، كان مهدَ ولادة مدينة “الترانزيت” بين أفريقيا وأوروبا، التي لا بد أنّ هذا الصغير الذي يستلقي على ظهره وسط صحراء يدي، قد أسّسها في أعلى “جبل زنككره” الحصين، فقد كان عليه أن يختار لمهدها مكانا حصينا.
في أعلى جبل زنككره، كانت البدايات وكان الوصول إليها صعبا وشاقا، وما أن بدأتُ بالصعود نحوها حتى دوّمت في سمائي النسور، نسور زنككره المتربّصة للانقضاض على من يحاول أن يقترب من كنز الجرمنت الاول “عربتهم التي تجرها الخيول“. كان “جراما” الصغير بيدي، ينتفض ويسفر عن سلاحه وجنوده النسور، الذين ظلّوا يحرسون وجه جرمة المخفيّ لقرون.
جرمة الشرسة المحاربة التي ظلت تعمل كحارس لثروات الشمال وتجارته وتبدو طيّعة ليّنة ومستسلمة لأوامر لبدة الكبرى. كان وجه جرمة الأخرى شرسا ومدمرا وتدوم نسوره للانقضاض على شمال متغطرس وجشع، كان بإمكان جرمة الأخرى أن تحيل لبدة الكبرى أثرا بعد عين.
“جراما” الجد الصغير الغامض والمستلقي في راحة يدي تمثالا من خشب، والذي لا أعرف عنه الكثير، ولا يرى زوّارُ المتحف فيه إلا تحفة صغيرة تلتقي فيها فنون الشمال بفنون أفريقيا. كان عليّ أن أراه دولة حكمت الصحراء لقرون وسيطرت على تجارة العبور التي أنقذت ليبيا من الفناء، وحفظت إرثا من الرسم والنحت والتحنيط رغم الجفاف العظيم الذي ضرب كل ألوان الحياة في ليبيا، فقتل أنهارَها وغاباتِها وأباد زرعها وضرعها وخنق إنسانها بالرمال والعطش.
جراما الصغير الواقف دائما، صغيرا وهشا وقابلا للكسر، وسط رفّ صغير بمتحف جرمة المعزولة بالرمل، والشبيهة بمقبرة للتاريخ بالنسبة للباحثين والسوّاح، كان ورغم هشاشته وصغر حجمه قادرا دائما على البقاء، فلقد قاد أبناءه إلى اكتشاف الزراعة، ورفع سيوف النخل في وجه التصحر و”القبلي” ورسم طرق التجارة بين الشمال الليبي وأفريقيا المعزولة.
كان بإمكان أحفاده أن يستخرجوا الثروات والرفاهية من الرمل، والأنهار من العطش، وأن يبنوا من العدم دولة الترانزيت والثراء، إن هذا الجد الصغير الغامض الذي كنتُ أحمله في راحة يدي، ولا يساوي وزنه “ربع دينار معدني” كان يحرس في داخله ثراء غامضا، لا اعرف كُنهه ولا يمكنني تحديد ما يكون.
جرمة التي لا تبدو الآن إلا كنزا ثقافيا وتاريخا قد انتهى، ولم نقرأه بعد، والتي طواها النسيان وغلّفها العدم، كانت ورغم هذه الوداعة وهذا الضمور وهذا التسليم بكل ما جرى، والتي تسكت على عبث يدي بجدها الكبير “جراما”، وسخريتي من صغر حجمه ومن جفاف عوده، وتهديدي بشنقه في مرآة سيارتي؛ أيقونة مزورة ولا تساوي درهما من نحاس.
كانت وفي كل حين قادرة على النهوض وعبور حواجز الرمل وخنق من يحاول خنقها، كانت خانق لبدة العظمى برومانها ووندالها وكانت أيضا قادرة على مدها بالثراء والرخاء، كان هذا الصغير الغامض المستلقي في راحة يدي “جراما” الهش الصغير الغامض، قادرا على أن يتحول -وكما في الأساطير- إلى ماردٍ يرعب الرومان والفراعنة، ويرعبنا نحن خلفه الجاحدون إن لم ننتبه.
إرسال التعليق