عالم جديد شجاع، عن الإعلام الرقمي
عمر أبوسعدة / دروج.
يبدو الحديث عن الإعلام الرقمي، من حيث طبيعته وتأثيره في الحيّز العام والخاص للمجتمعات والأفراد؛ حديثا متأخراً بعض الشيء، وربما مكروراً كذلك. فمنذ ما يقرب العقد من الزمان، بات الإعلام الرقمي، يأخذ مكان الإعلام التقليدي شيئا فشيئا. حى سُمّي هذا الفضاء بـ العالم الافتراضي، لكنه ما لبث أن صار العالم بألف ولام التعريف.
وبتطور هذا النمط من الفتوحات الإعلامية-التكنولوجية، كان من الطبيعي مناقشة تأثيراتها وامتداداتها في الاجتماع والسياسة والاقتصاد والترفيه. فضلا عن حدوث تَماسّ بينها وبين بعض الحقول العلمية، مثل: علم النفس والإحصاء والتسويق.. وبالطبع الإعلام.
ومع تمدد هذا العالم، واستحواذه على حيوات الملايين كل سنة، فإن الحديث عن الواقع الذي خلقه ويخلقه ما يزال يحتفظ براهنيته الكاملة.
ثورة ثالثة:
يذهب كثير من مؤرخي العلوم في تقسيمهم لأحقاب الثورة الصناعية، لوسم الطفرات التكنولوجية الهائلة، بالثورة الصناعية الثالثة. بدأت هذه مع عقد الثمانينات، وشملت ظهور الأجهزة الإلكترونية، والحواسيب الشخصية، ثم الإنترنت. تغيّرت الحياة عقب هذه المنجزات، فأضحى إيقاعها أسرع، واستُبدل المجهود العضلي بالذهني، وباتَ هناك تلهُّفٌ لمزيد من الابتكارات التي ما فتئت تتوالى، وتبني على ما تم إنجازه.
وبقدر ما كانت ثورة التكنولوجيا امتداداً لثورتي البخار والكهرباء، فإنها أيضاً مهّدت لما بعدها من ثورة صناعية رابعة، قوامها الذكاء الصناعي وتقنيات النانو والحوسبة الكمومية وغيرها.
كل ما سبق من ثورات سُمي بـ الحداثة، وهو مصطلح يُشير لدخول المسيرة الإنسانية في مرحلة تختلف كليا عن كل ما شهدته خلال تاريخها الطويل. وهي مرحلة فرضت إشكالات سياسية وفلسفية، واستحدثت أنماطا معرفية مختلفة، تُعنى بتفسير علاقة الإنسان بهذا العالم الجديد الذي خلقه، وأعاد هو خلْقه بالقدر ذاته.
صناعة الثقافة:
مع شيوع الإنترنت، وظهور الفضائيات، دخل العالم إلى عصر العولمة، وتقلص إلى قرية واحدة، وبدا أن منابر الإعلام التقليدي بكوادره المحترفة، التي كانت الروافد الرئيسية والوحيدة، لنشر الثقافة وإذاعة الأفكار والآراء، تواجه تحديا وجوديا حقيقيا، حتى وإن لاح بعيدا أو زاحفا ببطء.
في العالم العربي، أخذ التغيير منحىً انفجاريا. فهنا لدينا أنظمة سياسية شمولية، أمّمت وسائل الإعلام، وخنقت الفضاء العام، واعتمدت في الترويج لشرعيتها، على بروباغاندا سلطوية موجّهة، تختلف كفاءتها باختلاف نوعية النظام، ومستوى الثقافة المجتمعية.
وكان من سوء حظ بعض هذه الأنظمة، أن تزامنت ثورة التواصل الاجتماعي، مع ثورات ما سُمي بـ الربيع العربي، وهي انتفاضات تمكنت من استغلال أدوات الاتصال الجديدة، في تحشيد النواة الأولى للتجمعات المنتفضة، وتنظيم ممارساتها فيما بعد. وهذه الانتفاضات، امتدت آثارها لاحقا إلى ما وراء المطالب السياسية والاجتماعية، وأحدثت تغيّرات جذرية، في نمط الإعلام والتواصل، تجاوَز السياسي إلى الثقافي والترفيهي والاقتصادي.
لذلك لم يمضِ وقت طويل، حتى دُشنت منصات ومواقع إلكترونية لعدد من وسائل الإعلام، وتزايد عدد المدوّنات، إلى جانب ملايين الحسابات الشخصية، التي تحولت بدورها إلى منابر سياسية وثقافية، لا تكتفي بنقل الحدث وعرض الرأي، بل تُسهم في صناعته، وتتناول جوانب في الفكر والاجتماع، لطالما كانت متجاهَلة، أو مسكوتا عنها، كما أتاحت لعديد الأصوات والكتابات والقضايا أن تظهر، وهو ما لم يكن متاحا من قبل.
بديل أم جديد؟
مع ضَعف الموروث الثقافي والقانوني الذي يؤمّن بيئة سليمة لممارسة العمل الإعلامي؛ انسحب الإعلام القديم، بمواده “الصلبة”، ليُعيد إنتاج نفسه -في سياق الصراع مع المنصات الحديثة- لصالح ما بات يُعرف بـ صناعة المحتوى. وهو اصطلاح فضفاض لا يخلو من غموض، يعتمد المواد البصرية والمهارات الدعائية، في جذب المتابعين، مثيرا في ذلك عدة إشكالات، تبدأ من المهنية، ولا تنتهي عند جهات الدعم والتمويل.
وهكذا تساوى الصحافي مع التسويقي والإعلاني، وتداخلت الصورة مع الكلمة، والسياسة مع الاقتصاد والترفيه، داخل بوتقة واحدة عُرفت باسم “المحتوى”، والغاية الانتشار وتوكيد الوجود، أكثر من ابتغاء الجودة والرصانة.
وإذا كانت القلاقل السياسية وطبيعة أدوات التواصل الاجتماعي، قد خلقت فضاءً متحررا من قيود الرقابة والتوجيه، استُقبل في البدايات بنوع من الأريحية والتفاؤل؛ إلا أنه سرعان ما استحال هذا إلى فوضى غير منضبطة، مثلت تحديا لمفهوم الإعلام برمته. فقد اُكتشف أننا لسنا أمام إعلام بديل سيرث الإعلام التقليدي بمفهومه الضيّق، وإنما أمام إعلام جديد، تختلف سياساته ووظائفه وأبعاده مع ما تعارف عليه أهل الصنعة. سيّما ونحن في عصر (الحقائق البديلة).
وسط هذا الدفق الهائل من “الثقافة السائلة”، والاستقطاب الحاد في كل القضايا تقريبا؛ يبدو الرهان على وعي المتلقي/المستهلك، في انتقاء الغثّ من السمين؛ رهانا ضعيفا، لكن يظهر أنه الخيار الوحيد المتاح، في ظل تنافس محموم لعرض “المحتوى” على المستهلكين، في سوق بالغ الضخامة، يُرضي كافة الأذواق والتحيّزات، حتى وإن جاء على حساب التواصل، الذي أريد لهذه المنصات في البدء أن تكون جسرا له.
إرسال التعليق