التجميل.. هوس النسخة الواحدة المثالية
أحلام المهدي
كانت علاقتنا بالتجميل لا تتعدى ما نراه على الشاشات الصغيرة والكبيرة من وجوه نجمات السينما والدراما والغناء أيضا، وهنّ يتوقفن عند مرحلة عمرية معينة لا يتجاوزنها أبدا، فلا شعر أبيض خفيف امتصّت السنوات لونه وكثافته، ولا تجاعيد حول العينين أو الفم رسمتها سنوات العمر خطوطا رقيقة تجعلنا نخمّن عمر صاحبة هذا الوجه.
اليوم تضج مواقع التواصل الاجتماعي بصور النجمات الجميلات، من دخلن عالم الجراحات التجميلية من نحت وشدّ ونفخ، وهنّ مستعدات لبذل الأرقام الفلكية مقابل الصورة المثالية التي ترغب الأنثى دائما أن تظل داخل إطارها، تنأى بشبابها ونضارتها عن عبث السنين وأخاديد العمر التي ترتسم بمرور الوقت على كل جزء من جسدها.
تغيرت اليوم تماما هذه النظرة وتحولت الليبيات من مشاهِدات ومنبهرات بالتطور الكبير الذي وصلت إليه الجراحات التجميلية إلى مشارِكات بقوة في هذا الفعل، إعلانات ممولة لأطباء وطبيبات تجميل، وصور لنتائج باهرة تنشرها المصحّات المتخصصة في التجميل ليسير الجميع تقريبا في هذا الركب العظيم ولو بدرجات بسيطة ليست مرتفعة التكلفة المالية.
في الوقت نفسه تنظر الكثيرات بريبة وخوف لموضوع التجميل، فقد تستخدم الكريمات والمساحيق الموضعية، لكن الخضوع لمبضع الجراح بهدف التجميل يظل مثارا للخوف والتشكيك أحيانا، ثم إن ازدواجية المعايير أسلوب حياة بالنسبة للكثيرات، فقد تعتبر إحداهن نمص حاجبيها حراما رغم أنها لم تترك شيئا في مصحات التجميل إلا وجربته، ونجدها تشد أكثر على وتر “تغيير خِلقة الله” في الحالة الثانية.
لكل شيء بداية وخطوة أولى عادة ما تتسم بالبدائية والبساطة، تقول المراجع التاريخية لهذا الفرع الطبي إن البداية كانت في العالم القديم وتحديدا في الهند، عندما استخدم الطبيب الشهير “سوسروثا” تقنية ترقيع الجلد منذ القرن الثامن قبل الميلاد، رغم أن الرومان تمكنوا من إصلاح الأضرار الصغيرة مثل تلك التي تصيب الأذن بتقنيات بسيطة منذ القرن الأول قبل الميلاد. في أوروبا بدأ التجميل حسب بعض التقارير بصناعة أنف جديد لرجل بعد أن أكل الكلب أنفه الأصلي، واستُخدم لذلك جلد أُخِذ من خلف الذراع، في أميركا التي تعتبر من الدول التي تتصدر قوائم الأكثر إجراء لعمليات التجميل كان أول طبيب يجري عملية تجميلية هو د. جون بيتر ميتاير، أجراها بأدوات صممها وصنعها بنفسه عام 1827. وللتاريخ، فإن الطبيب النيوزيلندي السير هارولد جيليز هو الأب الحقيقي أو المؤسس الأول للجراحة التجميلية الحديثة، وقد نال هذه المكانة منذ وضعه قواعد أساسية لهذا العلم طبق بعضها على بعض ضحايا الحرب العالمية الأولى.
في العام 2017، نشرت الجمعية الدولية للجراحة التجميلية دراسة استقصائية فيما يخص عمليات التجميل، وقد قالت الأرقام إن العمليات تزداد انتشارا كل عام، تصدرت أميركا القائمة بأكبر عدد لعمليات التجميل في العالم، تلتها البرازيل ثم اليابان ثم إيطاليا فالمكسيك وروسيا، أما عربيا فقد جاءت مصر في الترتيب الرابع عشر ثم لبنان بالترتيب الثاني والعشرين، ويبدو السبب واضحا هنا في كون مصر ولبنان تتصدران هذه القائمة عربيا، فهما قبلة الفنانات الطامحات إلى الشهرة والنجمات الرافضات الرضوخ للَمسات الزمن القاسية.
ربما تغيرت المعطيات قليلا في السنوات الأخيرة على الصعيد السياسي والاقتصادي وحتى الصحي، وقد يكون ذلك أثّر سلبا على كل مظاهر الحياة، لكن عمليات التجميل لا تتأثر بكل ذلك، حتى أنها زادت وسجلت أرقاما كبيرة بالتزامن مع أحداث عالمية مهمة مثل ارتفاع حالات الإصابة بكورونا مطلع الألفية الثانية، فكانت أولا بعد طرح اللقاح تتجه لتجميل الوجه والأنف خاصة والجفن، ثم وبالتزامن مع زيادة الوزن الناتجة عن الحجر المنزلي راجت عمليات شد الجسم ونحته وشفط الدهون وفقا لبعض بيانات الجمعية الأميركية لجراحي التجميل.
مبروكة الشريدي طبيبة تجميل تعمل في طرابلس أجابت عن أسئلتنا في “دروج” بمهنية وتفصيل، وقالت عن التطور الذي شهده طب التجميل في السنوات الأخيرة: “طب التجميل خلال السنوات الأخيرة حدثت فيه قفزة نوعية كبيرة جدا، سواء من حيث التقنيات أو المواد المستخدمة أو حتى فلسفة الجمال نفسها. في السابق، كان التركيز على التغيير الجذري للملامح، أما اليوم فالاتجاه أصبح نحو التحسين الطبيعي والحفاظ على هوية الوجه مع لمسات ناعمة ومتناسقة، كما ظهرت تقنيات غير جراحية متطورة مثل الإيندولفيتال بلازما فيلر بديلة الفيلر، والهايفو جهاز الشد الليزري، وحقنة أصالة المشهورة المحفزة للكولاجين والتي تعيد هيكلة وسماكة الجلد وتعالج التجاعيد وتشد البشرة وتشتغل بمرور الوقت، ما قلل الحاجة للعمليات الجراحية وأتاح نتائج سريعة وآمنة.”
عندما نذكر عمليات التجميل وكل المحتوى الإعلامي والتلفزيوني تحديدا الذي يهتم بها، نجد أن بعض الصور لردات فعل من خضعن لتغييرات تجميلية جذرية تقفز فورا إلى المخيلة، حالات من الصدمة والفرح المعمد بالدموع وسيل من المشاعر ترافق هذا. سألنا الدكتورة الشريدي: هل هذه المشاعر حقيقية وتراها في مكان عملها، أم أن الإعلام يضخم كل شيء والنتائج التجميلية لا تعدو كونها نوعا من العلاج يمر بهدوء وسلام وكأنها شفاء من نزلة برد فقط؟ عن هذا قالت الدكتورة الشريدي: “ردات الفعل الحقيقية والتي أراها غالبا تكون مفعمة بالمشاعر، خصوصا عندما ترى السيدة انعكاس التغيير الإيجابي على ثقتها بنفسها. صحيح أن الإعلام أحيانا يضخم بعض المواقف، لكن من واقع التجربة كثير من الحالات تعبر بصدق عن سعادتها وتأثرها حين تستعيد ملامحها أو توازن مظهرها، خصوصا من ترجع لهن ثقتهن بأنفسهن بعد الإجراء الحاصل، فالجمال ليس فقط شكلا بل تجربة نفسية عميقة.”
وكما في التجميل نتائج مبهرة وناجحة هناك أيضا الأخطاء وحتى الجرائم التي تُرتَكب باسم التجميل، رغم ابتعادها عن ساحات القانون مهما بلغت جسامتها. في هذا الصدد قالت الدكتورة مبروكة الشريدي: “شخصيا لم أتعرض لأي قضية قانونية والحمد لله، لأن التعامل المهني والشفافية يقللان من احتمالية النزاعات، لكن في الوسط الطبي هناك حالات محدودة تلجأ للقانون وغالبا تكون نتيجة سوء فهم أو ممارسات غير دقيقة من أشخاص غير متخصصين، لذلك من الضروري أن تمارس المهنة فقط من قبل أطباء مؤهلين وتحت إشراف الجهات المختصة.”
نعود إلى عبارات الشريدي الأخيرة وننظر إلى الطب التجميلي بعين القانون والمسؤولية القانونية جنائية كانت أو مدنية. في قانون العقوبات الليبي هناك “القتل الخطأ” الذي تنص عليه المادة 368، وهناك الإيذاء الخطأ أو التسبب في ضرر جسيم وتنص عليه المادة 369، وأقصى حد لعقوبة القتل الخطأ الحبس مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات، أما الظرف المشدد الذي تنص عليه المادة 371 فهو أن الحد الأقصى للعقوبة المنصوص عليها في المادتين السابقتين يزاد بمقدار لا يجاوز النصف إذا كان الفاعل طبيبا أو ممارسا صحيا.
إن هذا القانون العام منصف بعض الشيء لضحايا الإهمال والأخطاء الطبية المختلفة، تجميلية كانت أو علاجية، لكن القانون الخاص يقوض هذه الصلاحية ويحد من فعالية هذا القانون، بل ويلغيها تماما عندما يتنازل عن مهمّته لجهات أخرى. القانون رقم 17 لسنة 1986م بشأن المسؤولية الطبية تنص المادة الثالثة منه على التالي: “على الجهة المختصة بالمهن الطبية اتخاذ الإجراءات التأديبية المناسبة ضد ممارس المهنة إذا ثبت إخلاله بواجبات المهنة أو مخالفته الأصول العلمية المتعارف عليها”.
ختامًا، سألنا الدكتورة الشريدي أيضا: هل النساء في ليبيا جريئات في طلباتهن التجميلية أو ما زال هناك حذر وخوف من العواقب؟ فأجابت: “النساء الليبيات أصبحن أكثر وعيا وثقة في هذا الجانب، في السابق كان هناك تردد وخوف من المجتمع أو من النتائج أو عدم دراية بالعلاجات الجلدية والتجميلية، أما الآن فهناك جرأة مدروسة؛ أي أن المرأة الليبية تعرف ما تريده تحديدا وتسأل عن التفاصيل العلمية قبل الإجراء، يعني صارت الإجراءات التجميلية مفهومة وواضحة، والحالة أو المراجِعة تعرف ما هو الإجراء التجميلي الذي ستجريه وما هي التغيرات التي ستحدث وأيضا الأعراض الجانبية لو وجدت، ومع ذلك ما زال بعض الحذر موجودا خصوصا عند الفئة التي تخشى النتائج غير الطبيعية أو التجارب غير الموثوقة.”


