لا يقف الفن في مواجهة الرصاص والكوارث أو المعادين لحرية الإنسان مباشرةً، لكنَّ عمره خالد لا يموت، ويبعث الخوف في أعداء الحقيقة، مزيفي التاريخ ومحرفي الذاكرة. وهو ما يمنح اللوحات الشهيرة قيمة تتجاوز المال ومحاولات تجميل الجدران، بل شهادة ثقيلة لحقيقة كانت وانتهى زمانها.
وأهم تلك الأعمال هي التي تحافظ على الحدث كما هو بشكل حقيقي ومباشر، لدرجة أن رؤية التفاصيل فيها لا يدع مجالًا للشك في الحدث الذي بنى الفنان على ضوء واقعه عملًا يبصر به الناس ما حدث في الماضي، من جانب لم يُذكر في كتب التاريخ بشكلٍ كاف أو مُصوّر. فقد كان دور الفنان أشبه بدور المصور والصحفي الذي ينقل الخبر بصورة ملموسة وحقيقية، إلى جانب أنه يوثق ذاكرة باليوم والتاريخ. وحتى في عصر الحداثة وما بعدها، ومع اختلاف أنواع وسبل توثيق الحدث، ظل دور الفنان هو التوثيق أيضا في حالة أن تأثير الموقف كان مباشرًا ولامسه شخصياً لينقله بطريقته الخاصة على الورق.
تاريخ الفن مليء بالكثير من الأعمال التي صورت الكوارث البشرية كالحروب والصراعات، والكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والأعاصير، من أهمها أعمال الفنان ليوناردو دافنشي الذي بدا جليًّا مدى تأثره وافتتانه بفكرة تدفق المياه ومحاولة معرفة أصول التغيرات والآثار المخيفة التي تنتج عنها عواصف وفيضانات، دوَّن ليوناردو أفكاره حول كيفية تصوره للطوفان مركزاً على القوة التدميرية للمياه ووجوب خشيتها؛ كون الجبال والمدن والجيوش عاجزة أمام الغضب المطلق للعواصف والأعاصير والفيضانات.
كذلك تعتبر لوحة الطوفان لميكيل أنجلو، من أبرز الأعمال التي وصفت فظاظة وعنف المشهد في وجوه الأشخاص، حيث لم يتردد أنجلو في توضيح فكرة الانتقام الإلهي في ملامح الأشخاص المنكوبين والعجز البشري أمام قوة الله، يظهر نوح ومن معه من الناجين في خلفية اللوحة في سفينة قديمة الطراز، وترى في الزاوية اليمنى المجموعة الناجية من الغرق العظيم في مأوى بدائي دلالةً على تحديد الحقبة الزمنية للحدث.
مهما كان دافع ميكيل أنجلو لرسم هذا العمل، إلا أن طاقته تكاد تكون ملموسة! وهو ما يثير التساؤل بعد مراقبة مشاهد الكوارث الطبيعية أو السماع بها: لماذا قد يغضب الله من فئة قليلة مقصرة ويهلك كل الأرض ومن عليها؟
المدينة الغارقة درنة، قد تكون أشبه بفكرة الأرض المحروقة غرنيكا في المأساة والخسارة، المدينة التي لم يبق بها حي، حيث قتل القصف الألماني كل البشر وهُدمت المنازل والأشجار ولاقت الحيوانات مصرعها في غرنيكا التي كانت حدثًا مروعًا للجميع، فأصبحت مصدر إلهام واهتمام الفنانين والكتّاب للتعبيرعن عمق استيائهم وحزنهم. ومن بينهم الفنان التشكيلي بابلو بيكاسو، الذي تأثر بتلك الجريمة والكارثة فرسمها وصورها بطريقته الخاصة في لوحة جدارية أسماها غرنيكا، في اللوحة يظهر الخوف والهلع على الأشخاص والحيوانات والطيور وتظهر المنازل في الخلفية يمين اللوحة وهي مشتعلة جراء القصف. أظهر بيكاسو بوضوح التفاصيل وحدد وجود المصباح الكهربائي فوق الأجساد التي تحتضر كنوع من تسليط الضوء على الحدث، ويقال إن المدينة المنكوبة ما كانت لتحظى بالاهتمام الدولي لولا لوحة بيكاسو؛ كونها تصف بشاعة ووحشية الموقف الذي تلقاه ونقله بطريقته، وهو ما يثّبت قوة الفن كأداة سياسية.
كيف يبدو المشهد في نظر الفنان الليبي بعد غرق درنة مؤخرًا، والحروب الأهلية السابقة والمستمرة؟
يُقال -هذه الأيام- إن طبيعة الوادي أخذت مجراها الطبيعي الذي جرف الأرض بما فيها، كحجة لتجاهل فكرة محاولة إبادة الإنسان والمدينة في درنة بشكل غير مباشر، بعد سنوات من الإهمال المتعمد وسرقة الأموال التي كان بمقدورها حماية الناس في المدينة الغارقة، دون المرور بتجربة الموت بهذه الطريقة المؤلمة ونجاة العديد منهم وسط الظلام وبرودة السيول والأمطار، حاملين معهم ذاكرة مشوهة مليئة بالخوف والذعر بقية حياتهم.
لم يعتد الفنان الليبي على حدوث كوارث في المنطقة غير الحروب التي تشبّع بها، لدرجة أنه/ها لم ينغمس بها فنيًا بشكل كافٍ؛ كونها حروب أهلية عبثية متكررة ومتقطعة من منطقة لأخرى، تبعث على التوتر أكثر من كونها مصدر إلهام واهتمام للفنان.
إلا أن كارثة انهيار سد وادي درنة واختفاء المدينة كان محط اهتمام الفنان الليبي، ومن بين الذين حاولوا وصف الحدث كما هو الفنان حكيم علي الطليس، في سلسلة من أعمال بالفحم على الورق.
يقول حكيم: “الفن أصبح هويتي وطريقتي في التعبير.. رغم أنني لم أدرسه ولكنه طريقتي الأساسية في معالجة أو مناقشة الأمور”. ويصف اختياره الفحم كأداة للرسم على أنه اختصار لشرح المأساة التي تحدث في ليبيا بشكل عام، من عدم استقرار وحروب ومشاكل مجتمعية وسياسية في المنطقة. وأن سبب استمراره في رسم ما يحدث في ليبيا هو كونه شاهد عيان وجزء من المشهد الذي يؤثر عليه مباشرةً، ولأنه يؤدي دوره كرسام ينقل ما يراه على الورق ليثبت شهادته.
“كشاهدة على التجارب الاجتماعية والحروب والكوارث في ليبيا، قد لا أجيد نسخ المشهد كما هو وبالأخص في تجربتي مع الحرب في طرابلس عام 2019، فقد جسدتُ شعور الذعر والصمت عند اقتراب القصف من مكان مبيتي يومها على ملامح الشخص العاري، الذي يجمع بين الجنسين حاملا هويته على رأسه، وفي اختفاء متتالٍ لملامح المدينة الطبيعية أرمز لذلك بتساقط الريش في محاولة لالتقاطها وسرقتها من الدجاجة، التي بدورها ترمز للنمطية التي تسود وتحكم”.
العاصمة – عتّوقة
درنة.. يظهر الوادي هنا، وهو أول المستقبلين لصدمة تدفق المياه الغاضبة التي أسقطت السد المُهمل، وتحول لون المدينة والبحر إلى لون الطين، الذي أصبح من الصور التي تُرهق الإنسان عند رؤيتها بعد مرور الكارثة، أجساد عالقة تحت المنازل المهدمة الغارقة وداخل سياراتهم، ويُرمز للأجساد التي تطفو على الماء باللون الأحمر دلالة اختفاء أغلب الضحايا دون إنقاذ اجسادهم، يسار اللوحة الناجي العظيم، الذي يقترب منه بقية الناجين بملامح مشوشة، يصف حال المواطن الدرناوي معدوم الأمل والأهل والسكن والموطن.
الوادي – عتّوقة
تصور اللوحة الأخيرة لعتّوقة غرق النساء واختلاط أجسادهن بالماء الموحل والدماء ومياه البحر، “وصفتُ بوضعية غرقهن ما كنّ عليه داخل منازلهن المغلقة آخر لحظة قبل الطوفان، ففي أول أيام من نكبة سد وادي درنة أرسلت لي صديقة مقطع فيديو لأحد الشباب يصور لحظة ارتفاع السيول في المدينة ويظهر صوت الشاب واضحًا، وهو يصرخ على أخته ويأمرها بالدخول وإغلاق الباب وعدم الصراخ وهي ترغب في الخروج وتحذره أيضاً من الاقتراب جهة السيول خوفاً عليه”.
حرة بحكم الغرق – عتّوقة
حتى الناجيات، راشدات وقاصرات، لم يسلمن من تطوع الذكور لتحمل مسؤوليتهن عن طريق عروض الزواج أو التبني بغية الأجر وخشية استمرار حياتهن بدون رقيب أو ستر، ستظل هذه الفكرة في توارث إذا لم يُقضى على النظام البطريركي، الذي يعتبرونه أساس قوامة وكمال الرجل في المجتمع، في الحرب والسلم.. وحتى الكوارث.
ندرك أن بعد الموت تولد حياة جديدة.. ولكنها ليست كتلك التي كانت.
ستولد مدينة مختلفة وتنمو أعشاب وتكبر الأشجار وتتعافى الأرض كما تشاء طبيعة الوادي، وتبنى منازل فوق أجساد ومنازل الغارقين، وستصبح القصص تروى وتختلق عن المدينة الغارقة المسكونة بالموت ورائحة الطين وصراخ الموتى الغافلين عما مروا به قبل حدوثه، وسيدرك الناجي أن إحاطة جسده بالجدران المرتفعة والأسقف والأبواب المغلقة لن يكون النجاة دائماً.
كل ما سيبقى من المدينة هي الذاكرة والناجون والكتب التي سيتم تدوينها وتوثيقها في الحاضر، لذا أجزم أن الفن أيضًا أداة توثيق ومقاومة ضد متغيرات الزمن، وضد التحريف أيضًا.