عتوقة: دنقل وسيّدات الخُنّ
بقلم: عتوقة
مررتُ بعدة مراحل في فهم وإعادة صياغة قصيدة «الطيور» وربطها بكل تجربة أخوضها. بدأتُ بقراءتها وأنا أشاهد من بعيد الطيور التي تحطّ على ساحة المدرسة التي كنت أعمل فيها. ورغم بساطة وسطحية فهمي لها في المرة الأولى، كنت أشعر تجاهها برابطٍ مخفيّ يحتاج وقفة صادقة مع النفس لفهمه.
وفي محاولةٍ أخرى لتفكيك رموزها، جاءت القراءة بعد الزواج والعيش في مزرعة تضم أكثر من عشر عائلات، وكأنها قرية منفصلة عن المدينة. وبعد أن تعلّمت طريقة إطعام حيوانات المزرعة، أصبح أول عملٍ لي كل صباح – أثناء ترتيلي للقصيدة ومروري بين الأشجار – هو إطعام الدجاج والديوك. عندها بدأت ذاكرتي بإفراز أحداثٍ قديمة وحديثة، وربطها بحياة الدجاج وسط نقيقه وصياح الديوك وعراكهم المستمر.
مع كل حركة أمامي، كان يتشكّل مشهدٌ قديم يضم أفراد عائلتي والأصدقاء، ومشاهد حديثة تضم من يعيشون في المزرعة. كنت أقارن هذه الصور بحياة الدجاج: كيف للديك أن يقضي يومه بين تلقيح الدجاج، والعراك مع من حوله، والتعدّي على طعام الفراخ والدجاج رغم وفرته في كل مكان. وظيفته الأساسية تبدو وكأنها الركض خلف الدجاجات وتضييق الخناق عليهن، دون ملل أو اكتفاء.
وأراقب الدجاج وهي ترقد، كل واحدةٍ على بيضها، في هدوء ودفء، تتابع تكوينه حتى تخرج منه الفراخ الصغيرة. تهتم بها حتى تكبر قليلاً، تعلّمها الخروج من الخنّ والتقاط الطعام الجاهز، مع استمرارية الديك في ملاحقتهن، حتى في انشغالهن بالفِراخ.


في هذا المشهد، استرجعتْ ذاكرتي لقب الطفولة: «عتوقة». كان أبي يطلقه عليّ لصِغر حجمي وقِصر طولي وشَعري، ثم اتّخذه إخوتي لاحقاً أداة ضغط واستفزاز لإهانتي كلما تغلّبت عليهم في أمرٍ ما.
الدجاج من الطيور؛ تلك التي ذكرها دنقل في قصيدته حين قال:
“والطيورُ التي أقعدتها مخالطةُ الناس
مرّت طمأنينةُ العيش فوق مناسرها،
فانتخت، وبأعينها.. فارْتخت،
وارتضت أن تُقأقِئ حول الطعام المتاح”.
وعند إعادة قراءة القصيدة من منظورٍ نسوي، أصف مجازياً النساء بالطيور؛ كجسدٍ يعيش حالة القمع ذاتها. فالطيور الداجنة – النساء – اعتدن القمع حمايةً لأنفسهن، بوعيٍ كامل أحياناً، بغية انتهاز فرص الحرية الحقيقية في المستقبل، أو بلا وعيٍ أحياناً أخرى، لمجرد البقاء.
في المقابل، هناك الطيور الحرة – النساء –
“المشرّدة في السموات،
ليس لها أن تحطّ على الأرض،
ليس لها غير أن تتقاذفها فلوات الرياح”.
وكأن الحرية محصورة في السماء للأحرار، ومحرّمة على من في الأرض من النساء اللواتي يُجبرن رغماً عنهن، وتجرّفهن الظروف والسلطة الذكورية للتعايش في مكانٍ غير مناسب، بعيداً عن انتمائهنّ الأساسي.
“ربما تتنزّل
كي تستريح دقائق
فوق النخيل، النجيل، التماثيل،
أعمدة الكهرباء،
حواف الشبابيك والمشربيات،
والأسطح الخرسانية”.
لم يذكر دنقل إلا الأماكن التي لا تطؤها يد البشر، مؤكداً أن المرأة الحرة – وإن رغبت في استراحةٍ عابرة من تعب التحليق – ستُقابل بالرفض والإنكار.
“اهدأ،
ليلتقط القلبُ تنهيدة،
والفمُ العذبُ تغريدة
والقطِ الرزق..”
تلميحٌ واضح من شاعر الرفض لأهمية استغلال لحظات الراحة القصيرة، والوقفات الخاطفة التي تأخذها المرأة مع ذاتها، للتنفس وسط قيود المجتمع والعائلة.
أما عبارة «والْقطِ الرزق»، فهي تشير إلى الرزق المؤقت الذي يقتصر غالباً على فتات الحرية والامتيازات المشروطة؛ كالتعليم الذي يُمنّ عليها به ككرمٍ لا كحق، أو العمل المشروط الذي تُجبر فيه النساء على قوانين تمييزية تقيدهنّ، على عكس الرجل.
لكن:
“سرعان ما تتفزّع
من نقلة الرِجل،
من نبلة الطفل،
من ميلة الظلّ عبر الحوائط”.
فالأرض – التي يُفترض أن ترمز للأمان – تصبح مكاناً للتهديد. كلفة الحرية على الأجساد المقموعة تجعل النساء اللواتي أُجبرن على العيش بين سماء لا تحمي، وأرضٍ لا ترحّب، محدودات الإنتاج والمشاركة، ممنوعات من الامتلاك الكامل لحياتهن. يتفزّعن من سلطة الأب، والأخ، والزوج، في كل خطوة، ومن رقابة المجتمع المسلّطة عليهن، حيث تصبحن مرئيات، متاحات للتقييم والمحاسبة من القريب والبعيد.
“رفرف،
فليس أمامك
والبشر المستبيحون والمستباحون صاحون
ليس أمامك غير الفرار”.

الفرار هنا لا يُفهم بوصفه هروباً سلبياً، بل تذكيراً بانتهاز الفرص للنجاة، وبالإخفاء المؤقت للرغبات، وتجميد الأحلام إن كانت تحت أعين من يقمعها ويرفض ممارستها، ويمارس العنف والتحرش، ويستبيح حرية المرأة ويقيّد حضورها.
وصفُ دنقل «المستبيحون والمستباحون» هو إدانة مجتمعية واضحة؛ فالمجتمع يشارك في إعادة إنتاج القمع والاستباحة. والمستباح هنا هو المرأة نفسها. فالنساء اللواتي تأقلمن واعتدن القمع هنّ الأخطر، لأن المرأة في هذه الحالة تكون قد تخلّت عن جناحيها، ورضيت بالفتات، وألِفت العيش السهل الذي أقنعت نفسها به، وظنّت أن السلامة تكمن في الطاعة.
لا يبقى أمام الحرة سوى الفرار من أعينهم وبطشهم؛ وقد يكون هذا الفرار رمزياً، في التخلّص من القيود الداخلية، كالشعور بالذنب المزروع منذ الطفولة، أو الفرار من تحمّل مسؤولية إرضاء الجميع.
“والطيور التي أقعدتها مخالطة الناس
مرّت طمأنينة العيش فوق مناسرها،
فانتخت، وبأعينها.. فارْتخت،
وارتضت أن تقأقئ حول الطعام المتاح
ما الذي يتبقى لها.. غير سكينة الذبح،
غير انتظار النهاية”.
المرأة الداجنة – لا بقصد الإهانة – هي توصيف لحالة قمع طويلة وقاسية، جرى فيها ترويض المرأة وكسر حدّتها الطبيعية حتى فقدت غريزة الطيران الحر، وانطفأ وعيها بعد أن ألِفت سهولة العيش. فهي لا تُسجن، بل تُقنع أن البيئة آمنة، وأن الصمت فضيلة، وأن الطاعة نجاة.
“إن اليد الآدمية واهبة القمح
تعرف كيف تسنّ السلاح”.
هنا يفضح دنقل الخدعة؛ فالسلطة الذكورية التي روّضت المرأة، وكافأتها على صمتها، هي نفسها السلطة التي تُشرعن القتل الرمزي والجسدي، بعد أن قتلت روح التمرد فيها.

“والطيور التي لا تطير
طوت الريش واستسلمت..
هل ترى علمت
أن عمر الجناح قصير؟”.
إشارة إلى أن الفرص المتاحة أمام المرأة لمحاولات التحليق محدودة، وقد تُقطع من أول محاولة، فتُنهكها الظروف حتى تفقد الرغبة في المقاومة. ومع ذلك، يذكّرها بأن إمكانية العودة إلى الطيران ما زالت قائمة، مهما بدا الأمل هشّاً.
“الجناح حياة،
والجناح ردى،
والجناح نجاة،
والجناح سدى”.
الحرية قد تنقذ وقد تهلك. ففي المكان الخاطئ، حتى الجناح القوي لا يستطيع التحليق. وهي مفارقة تعيشها كل امرأة بين الخوف والرغبة في النجاة. ومع ذلك، تبقى الحرية جوهر الحياة، حتى إن ظُنّ أنها بلا جدوى.


