كيف تصنع ليبيا أبطالاً في الانتظار؟
الكرة الليبية، طيلة عمرها الرسمي الذي بلغ الآن 64 عامًا، ظلت حبيسة انتصارات صغيرة وقليلة على الصعيد الدولي، سواء على مستوى الأندية أو المنتخبات في جميع الفئات السنية وجميع المناسبات. فمنذ أول مشاركة لمنتخبنا في تصفيات كأس العالم المكسيك 1970 وحتى تصفيات كأس العالم 2026 (أمريكا – كندا – المكسيك)، لم ينجح المنتخب في الوصول، وتكرر خروجه، حتى وإن كان في بعض المناسبات القليلة قد وصل إلى أدوار متقدمة، كما حدث في تصفيات كأس العالم المكسيك 1986.
وكذلك الأندية، فقد تصرفت على نفس النهج، فمنذ أول مشاركة لها في بطولات القارة الإفريقية عام 1968 وحتى 2025، لم ترجع من مشاركاتها الإفريقية سوى بإنجاز يذكر.
لهذه الإخفاقات الكثيرة والمتتالية على الصعيد الدولي للكرة الليبية أسباب عدة، أسقام منها ما هو منذ الولادة الرسمية، ومنها ما أصيبت به الكرة الليبية في مراحل عمرها، وظلت هذه الأسقام تنخر في جسد الكرة الليبية من دون علاجات حقيقية وفعالة، فصار جسد الكرة الليبية عليلًا منهكًا يئن، غير قادر على حمل أحلام أنصارها ومشجعيها.
وصارت ليبيا في الشمال الإفريقي هي الجغرافيا الوحيدة التي لم تنجح في الوصول إلى نهائيات كأس العالم، رغم مشاركتها في التصفيات 15 مرة. كانت أولها منذ 57 عامًا في دورة كأس العالم المكسيك 1970، والتي نقلها التلفزيون العالمي بالألوان. فقد خسرنا حينها في التصفيات أمام إثيوبيا، وفي تلك الدورة كان لإفريقيا مقعد واحد جاء من نصيب المغرب.
ومنذ ذلك التاريخ، صار خروجنا من التصفيات كأنه قدر محتوم، برغم الزيادات المتتالية لمقاعد القارة الإفريقية التي وصلت الآن إلى عشرة مقاعد، ومع هذا ظل الحلم عصيًا علينا. ولأن الفشل المتكرر يخلق الكوميديا السوداء، فقد عبّر لاعبنا في الاتحاد والمنتخب الوطني، أبوبكر باني، قائلاً: “لن ندخل كأس العالم حتى يتم إلغاء التصفيات ويكون الدخول بالرغبة”.
كانت أول مشاركة لأنديتنا عام 1968، وكان أول المشاركين فريق نادي الاتحاد. وعلى مدى 57 سنة، شاركت أنديتنا في ما لا يقل عن 50 مشاركة على صعيد الأندية الأبطال وأبطال الكأس، ما كان يُسمى بكأس الكؤوس.
وكان أكبر إنجاز لكرتنا الوصول إلى المباراة النهائية، وهو وصول يتيم حين وصل فريق الأهلي بطرابلس، ثم انسحب أمام الأهلي المصري بقرار سياسي عام 1984. ولهذا، قلنا إن انتصارات أنديتنا هي انتصارات صغيرة وقليلة، وسجلت الأندية الليبية في الشمال الإفريقي أنها الوحيدة التي لم تدخل السجل الذهبي لبطولات الأندية الإفريقية.
ونفتش دائمًا عن سبب الفشل، لكننا لم نمتلك يومًا شجاعة تمكننا من تشخيص أسباب الإخفاقات وفق قواعد العلم. وعلى رأي المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم: “إن الشعوب التي تفشل في تشخيص أمراضها بشجاعة تموت نتيجة تناول الدواء الخطأ”. ونأمل ألا نصل إلى مرحلة الموت، وأن نستفيق يومًا وننتفض، قائلين: هنا مكمن الداء وهذه أسباب العلة.
ولعل من أبرز داءات الكرة الليبية هو غياب التخطيط العلمي، وانتهاج الارتجالية في كل المراحل، حتى صارت الكرة الليبية تمامًا كسفينة بلا بوصلة تتقاذفها الأمواج حيث تشاء. فنحن نتعامل مع الكرة على أنها وسيلة للتسلية وطرد السأم، وليس كمشروع وطني اقتصادي أو سياحي أو إعلامي.
كل اتحاد كرة يتولى المسؤولية، كل همه أن يكتمل الدوري وأن يتوج البطل، وهنا تقف أحلامه وقدراته وذهنه. مع ملاحظة أن أعمار الاتحادات، كأعمار عمل المدربين في الأندية والمنتخبات، قصيرة جدًا بحيث لم يتمكن أحد من تنفيذ خطط عمل طويلة. منذ عام 1962، تاريخ تأسيس الاتحاد الليبي لكرة القدم، لم يستمر اتحاد عام لمدة 4 سنوات إلا نادرًا، بل كان يتغير مجلس إدارة الاتحاد في الموسم الواحد أكثر من مرة.
والمنطق يقول إن العشوائية وعدم الاستقرار يُنتجان فوضى تحول دون تحقيق الإنجازات، وهذا أمر يُحسب على إدارات الأندية، التي من المفترض أن تكون الأساس المتين لكرة القدم. إلا أن هذه الأندية، التي فاق عمر بعضها 70 سنة، مغلقة، جعلتها الفوضى أساسًا مغشوشًا. فهي أندية فقيرة إداريًا وماليًا، وغير مستقرة، ولا تمتلك استراتيجية أو تخطيطًا أو رؤية. وكل همها بطولة محلية، والتشفي في الغريم بقهره والفوز عليه في الديربي، وإلى هنا تقف الأحلام.
وأصبحت الأندية نتيجة فقرها المالي متسولة تبحث عن رئيس يجلب المال مهما كانت قدراته ضعيفة. وطبيعي أن المؤسسات غير القادرة على تحقيق موارد مالية ثابتة لا تستطيع وضع خطط أو تنفيذ برامج، بل تظل مجرد أجساد منهكة. وحتى الأموال التي تحصل عليها بطرق غير شرعية تُصرف في مصارف غير ذات جدوى.
حين دخلت أنديتنا عالم الاحتراف، وهي لا تملك أسلحته، صارت مجرد صيد مغفل سهل لسماسرة اللاعبين والوكلاء والحذاق من الداخل ومن دول الجوار، وصارت مكبًا لبقايا اللاعبين والمصابين منهم. وقد استفاد من هذا الحال المحامون حين تدخلوا لتحصيل حقوق اللاعبين الأجانب.
ولأن المال يقود للتنازل، فقد صارت الأندية في السنوات الثلاث الأخيرة جزءًا من الصراع السياسي، عندما استغل الساسة حاجة الأندية للمال وقدموا لها الدعم المالي كرشوة مقابل النفوذ، مما جعل الوسط الكروي مسمومًا، يسكنه التطاحن والانقسامات الكبيرة، وتحولت الكرة إلى لعبة سياسية، لأن من يقود أنديتها يملكون المال والنفوذ السياسي. غير أن هذا التداخل بين السياسة والرياضة ليس وليد اللحظة، بل يمتد إلى مرحلة النظام السابق، حين تحولت الرياضة إلى إحدى أدوات النفوذ بعد تدخل أبناء معمر القذافي في إدارتها وتوجيهها، وهو تدخل أسّس لتسييس اللعبة ومهّد لتحولها إلى ساحة صراع مفتوحة، قبل أن يتضاعف هذا النهج في السنوات الأخيرة على وقع الانقسامات السياسية، ليبلغ ذروته الحالية.
وهذه أسقام أخرى أصيب بها جسد كرتنا في الآونة الأخيرة، ولهذا ولغيرها من الأسباب، سيظل وصول منتخبنا إلى كأس العالم وفوز أنديتنا بالبطولات الإفريقية والعربية مجرد أحلام يقظة وأماني عاجزة، ما لم نقف بشجاعة لنشخص حالتنا ونتناول الدواء الصحيح.


