أميرة النعال.. معاناة وكفاح المكفوفين في الحياة الجامعية
إن الحق في التعليم الشامل ليس محلًا للإثبات أو التأكيد، فهو من الحقوق الأساسية التي أقرت بها دساتير العالم والمواثيق والاتفاقيات المختلفة المتعلقة بحقوق الإنسان، ورغم ذلك يتجاهل المسؤولون في قطاع التعليم العالي في ليبيا معاناة الطلبة المكفوفين واحتياجاتهم الأساسية، حيث يعاني المكفوفون من العديد من العوائق و القيود التي من شأنها أن تحد من قدرتهم على مواصلة تعليمهم، بالإضافة إلى عدم إدماجهم داخل العملية التعليمية التي تتجاهل وجودهم باعتبارهم أقليّة، وهو ما يؤثر بشدة على قدرتهم على الاستمرار في ظل ظروف معقدة تجعلهم في حالة شكٍ دائم تجاه مستقبلهم الأكاديمي.
تروي الأم الكفيفة (خبلية صالح) خيبة أملها بسبب فقدانها حلم استكمال دراستها والتخرج من جامعة قاريونس في بنغازي، حيث احتضنتها مدينة بنغازي حين تركت أهلها المقيمين في مدينة زوارة غرب البلاد، غير أنها تركت الدراسة بسبب التحديات الشاقة التي واجهتها خلال عملية الوصول لأفضل النتائج التعليمية، فبالرغم من أن عقوداً قد مضت على تلك الحادثة التي أجبرتها على ترك الدراسة إلا أن محاولاتها اليائسة للحصول على “كاتبة” تساعدها في اجتياز امتحاناتها ما يزال ماثلا في ذاكرتها.
تقول وهي متجهمة: “كنت أعي أن الفتاة التي استعنت بها ليست صاحبة أفضل خط في الجامعة، ولكن الصدمة كانت متمثلة في أن سوء الخط والإملاء أدى إلى فشلي في اجتياز امتحانات الكثير من المواد الدراسية دفعة واحدة”، وتضيف قائلة: “هذه الصدمة القاسية أجبرتني على الانسحاب، لم أستطع أن أصدق أنني لن أحصل على فرصة ثانية لإعادة الامتحانات. شعرت بالهزيمة خلال تلك الفترة، وفقدت الرغبة في الاستمرار كطالبة جامعية و شعرت بعجزٍ لم يكن من السهل عليّ أن أتجاوزه”. يقع عائق البحث عن مساعد لكتابة الأجوبة في الامتحانات بالكامل على الطالب الكفيف، و يتحمل كذلك عواقب إن كان هذا المساعد لا يقوم بالعمل المطلوب كما ينبغي له أن يكون. وهذا ما تعتبره خبلية أمر غير منصفا أبدا.
الزمن يكرر مرارة العجز
قامت “مودة” وهي طالبة كفيفة بمراسلة صديقتها بعد يومين من إجراء أحد امتحاناتها في كلية الاقتصاد بجامعة طرابلس، كانت قد استعانت بها قبل ذلك لمساعدتها في كتابة الأجوبة الخاصة بالامتحان عن طريق الإملاء، حيث أن الجامعات لا توفر الآلات الكاتبة بطريقة برايل ليقوم الطلاب المكفوفون بالمهمة بأنفسهم، ولم توفر الجامعة أيضا موظفين ليقوموا بدور “أستاذ الظل” الذي من وظيفته تنفيذ مهام كتلك، وسألت مودة صديقتها بعد ذلك بأيام إن كان بإمكانها تخصيص بضعة أيام في الأسبوع المقبل لمرافقتها لإجراء باقي امتحاناتها لهذه السنة، وقالت صديقتها بأن مودة سألتها برجاء: ” الأستاذ المسؤول عن المادة أخبرني أن آخر كاتبة استعنت بها كان لديها خط واضح وتعرف كيفية استخدام علامات الترقيم، استعيني بها دوما”، واسترسلت الصديقة ” الأمر جعلني أشعر بالحسرة لأنني أخبرتها أنني مشغولة بعملي، بالإضافة إلى أنني لم أتمكن من توفير شخص آخر ليحل محلي، تمنيت لو لم يكن عليها تحمل كل هذا العناء مرارا و تكرارا”.
تجسّد هاتان القصتان عقودًا من الزمن تأزَّم فيها وضع الطالب الكفيف على مر السنين، فسوء إدارة العملية التعليمية جعلها جامدة منذ عقود رغم التطور الهائل الذي يحدث في العالم في كلٍ من مجالي التعليم والتكنولوجيا، وهو ما يحثّ النشطاء والحقوقيين على المطالبة بتنفيذ خطة تدعو إلى العمل الجماعي المستمر على الصعيدين المجتمعي والحكومي، حيث تضمن هذه الخطة تلبية احتياجات جميع المتعلمين بغض النظر عن ظروفهم وإمكانياتهم، وإعاقاتهم الجسدية، ونوعهم الاجتماعي، وخلفياتهم الثقافية.
وتقر منظمة اليونسكو أن الدمج هو رحلة طويلة تتضمن سلسلة إجراءات تتطلب وقتًا لتحقيق تغيير طويل الأجل، وعلى الرغم من تأكيدها على أن الدمج والتنوع في التعليم يوفر للأطفال والشباب من ذوي الاحتياجات الخاصة بيئة آمنة للتعلم، ويزودهم بالمهارات والمعرفة المطلوبة للنمو بشكل مستقل ولعب دور فعّالٍ في مجتمعاتهم، إلا أن الحكومات المتعاقبة في لبييا لم تعمل بالشكل الكافي لتقديم العون لأبنائها من المكفوفين وذوي الإحتياجات الخاصة، رغم وضوح القانون الليبي رقم خمسة الذي ينص في مواده على لزام تقديم المنافع و المزايا التي تعين الكفيف على الوصول للتعليم والدخول الميسر للمرافق التعليمية، بتوفير الأجهزة المعينة وغيره من السبل.
في حين ذلك، تتضافر جهود المبادرات غير الحكومية التي يقودها المتطوعون لتوفير خدمات المساعدة للطلاب المكفوفين رغم قلة الإمكانيات وعدم توفر الدعم المالي من أي جهة، حيث يقوم المتطوعون في مبادرة “اسمعني” على سبيل المثال بتوفير المواد الدراسية بصيغة (وورد) لكي يستطيع الطلبة قراءتها عن طريق قارئ الشاشة الذي لا يدعم صيغة “pdf”، بالإضافة إلى تسجيل الكتب المنهجية والأدبية لأولئك الذين يرغبون بالحصول عليها.
الدمج الجامعي.. حقيقة ما يحدث تحت عباءة المسميات
تتوزع مسؤولية عملية إدماج المكفوفين في المجتمع الجامعي على عدة أطراف مختلفة، تتقاعس جميعها عن توفير البيئة المناسبة لتحقيق نتائج إيجابية، ووفقا للأستاذة “زينب الفاخري” المسؤولة عن القسم الاجتماعي في جامعة بنغازي، فإنه لا وجود لإدماج حقيقي للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة في الجامعات الليبية، وصرحت قائلة :”نحن نعاني من التسيّب وانعدام المسؤولية، وفي الواقع فإننا من جميع الفئات بتنوع احتياجاتنا الخاصة لا يتم وضعنا في الاعتبار حين يتم وضع خطط للتنمية والتأهيل”.
وعندما سُئلت عن استراتيجية الدمج المجتمعي المتاحة للطلاب المكفوفين ودور مكاتب الفئات الخاصة ومكاتب الخدمة الاجتماعية في وزارة التعليم، وعن أسس الإدماج التي تتبناها الجامعات، أجابت بأنه لا توجد أي استراتيجية مُحدَّدة، وأن جميع الانجازات المتعلقة بإدماج الطلاب المكفوفين هي مجهودات شخصية.
وتحدّثت “الفاخري” بدورها عن تقاعس الجهات المسؤولة عن توفير التدريبات اللازمة للمعلمين والأخصائيين لتشجعيهم على الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة ومساعدتهم على الاندماج، فوجود مساعدين شخصيين للطلاب المكفوفين لمساعدتهم في تنظيم المهام الأكاديمية، والمشاركة في الفصول الدراسية والمحاضرات، يُعزز من قدرة الكفيف على الاندماج بسرعة، كما أنه قد تم إصدار قرار لصالح المكفوفين يختص بمنحة “القارئ”، و هي منحة مالية شهرية تقدّمها إدارة التضامن الاجتماعي، وتضيف قائلة: “قد قمنا من جهتنا كجهة مسؤولة بإرسال جميع البيانات الخاصة بالطلاب من ذوي الاحتياجات الخاصة والتي تساعد في تسريع تفعيل القرار، إلا أن هذا القرار لم يُفعّل منذ صدوره قبل عام”.
أدوات في مواجهة الإعاقة
اكتسبت الوسائل التعويضية المساعِدة أهمية غير مسبوقة لمساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة في الوصول لأكبر قدر ممكن من الرعاية، وتوفر الجمعيات الأهلية التي تقوم بتسيير العملية التعليمية من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الثانوية جزءًا يسيرا من هذه الخدمات، في مقابل الإهمال الحكومي التام للمرحلة الجامعية وعدم تقديم يد العون أو توفير الوسائل التي تساعد ذوي الاحتياجات الخاصة في استكمال تعليمهم.
ووفقا للأستاذة “زينب الفاخري” فإن إحدى أكبر التحديات التي يواجهها الأشخاص المكفوفون هي طريقة الإدماج التعليمي للفئات العمرية دون سن العاشرة والتي لا تخضع للأسس الصحيحة، بالإضافة إلى أن عدم توفر الدعم الحكومي يجعل استدامة هذه المنظمات الأهلية مشكوكا فيه، حيث تعتمد هذه المنظمات بشكل رئيسي على المبادرة الشخصية والعمل الإنساني والتمويل الذاتي، وترتبط ميزانيتها بإيرادات العقارات التجارية والمرافق التابعة لها، بالإضافة إلى التبرعات التي يقدمها أصحاب الأعمال وبعض المنظمات الأجنبية التي ترتبط بعقود طويلة الأجل وتلتزم بدعم التنمية المستدامة للأنشطة الأهلية بمختلف مبادراتها وتخصصاتها، غير أن غياب الدعم المعنوي يعتبر عائقا مباشرا، ويجعل إمكانية الوصول إلى أشكال الدعم المختلفة التي يحتاجها الكفيف أمرا شاقاً، ففي حين تفرض الإعاقة البصرية قيودا تُقلل من قدرات الفرد على أداء أدواره الاجتماعية على الوجه الأكمل، يصطدم المكفوفون وذوو الاحتياجات الخاصة بعوامل أخرى كالإهمال والنظرة السلبية من المحيطين بهم.
تقول “مريم” من مدينة البيضاء شرق البلاد أن المعاناة تبدأ منذ المرحلة الابتدائية وتستمر بالتأزم: “ما زال الوضع على ماهو عليه حتى في المرحلة الجامعية، لا زلت أعاني من صعوبة في التواصل والوصول لكل مكان من حولي، ولكن أكثر ما يحبطني هو صعوبات الدراسة، حيث يتم تحقير احتياجاتنا الأساسية، فالمناهج للمكفوفين غير متوفرة رغم أن توفيرها ليس بالأمر الصعب خاصة في وجود التقنيات المساعدة، أبسط وأسهل الطرق هي أن يتم إعطاؤنا المناهج بصيغة يتقبلها قارئ الشاشة، حتى نقوم بدراستها بمساعدة التكنولوجيا بكل يسر”، وتضيف: “يجب على الدولة متابعة هذه الأمور التي قد تبدو يسيرة للوهلة الأولى، ولكنها تسبب لنا الكثير من الضغط، فحتى آلات الطباعة الخاصة بلغة برايل تُباع بضعف سعرها الذي يصل أحيانا لعشرين ألف دينار، وهو سعر ليس في متناول الطالب الجامعي الذي يملك معاشاّ ضمانيًا لا يتجاوز 650 دينار ليبي”.
ويقول “عبد العظيم النعال” الذي درس خلال عقد السبيعنيات داخل جمعية النور الأهلية المعنية بتعليم المكفوفين، وهو عضو مؤسس للمنظمة الليبية لحقوق المكفوفين أن الأشخاص المكفوفين وضعاف البصر في المجتمع الليبي يواجهون تحديات كبيرة مع مجتمع لا يقبلهم وينظر إليهم نظرةَ استغراب ونفور، ويرى “النعال” أنه قد حان الوقت لتعليم المجتمع أهمية احترام حقوق المكفوفين عن طريق توفير الدعم اللازم لهم، مما يُمكّنهم من أن يصبحوا مواطنين فاعلين عن طريق توفير بيئة حاضنة، فالصعوبات التعليمية التي تواجه الطلاب المكفوفين في الوصول إلى قاعات المحاضرات والتنقل في ممرات الحرم الجامعي هي نتيجة طبيعية للبنية المعمارية للجامعات التي تُعتبر غير ملائمة للطلاب المكفوفين وذوي الاحتياجات الخاصة، وفي هذا الصدد كانت الأستاذة “زينب الفاخري” قد قدمت مُقترحًا لرئاسة جامعة بنغازي لصيانة بعض المرافق الخاصة بالكليات بحيث تكون ملائمة للطلاب المكفوفين، ويأتي هذا الاقتراح ضمن مشروع إعادة إعمار الجامعة التي تضررت جراء الحرب الطويلة التي شهدتها المدينة.
وعلى الرغم من بعض التحسينات المُنجَزة إلا أن تعزيز إدماج المكفوفين في المجتمع العلمي لا يزال تحديًا كبيرا، فالكثير من الطلاب المكفوفين حققوا نجاحًا مذهلا في مجالات مختلفة، وحصلوا على درجات علمية عالية مثل الماجستير والدكتوراه رغم الإهمال الحكومي ورغم كل المصاعب والعوائق التي وقفت في طريقهم.
محاولات ومساعي
في مساعيها لتذليل الصعوبات أمام الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، تدعو المنظمات الحقوقية المحلية في ليبيا السلطات والجهات المعنية للتوقيع على اتفاقية مراكش، وهي اتفاقية دولية تم العمل عليها في مدينة مراكش في المغرب عام 2016، وتهدف هذه الاتفاقية إلى تعزيز حق الوصول إلى المواد المطبوعة والمنشورات الخاصة بالمكفوفين وضعاف البصر والأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، حيث تعمل هذه الاتفاقية مع الدول الأعضاء للتخلص من العقبات القانونية والتنظيمية التي تعيق إنتاج وتوزيع واستخدام المواد المطبوعة بتنسيقات قابلة للوصول، مثل الكتب الصوتية والكتب الإلكترونية والنسخ المكبرة، و بموجب هذه الاتفاقية يُسمح للمؤسسات المخصصة لخدمة المكفوفين وضعاف البصر تبادل المواد المنشورة بين الدول، حتى لو كانت تحتوي على حقوق ملكية فكرية، دون الحاجة إلى الحصول على إذن مسبق. ويهدف ذلك إلى تعزيز إنتاج وتوفير المزيد من المواد المنشورة التي تتناسب مع احتياجات الأشخاص المكفوفين وذوي الاحتياجات الخاصة .
وتمثل اتفاقية مراكش خطوة هامة في تعزيز حق الوصول إلى المعرفة، وتساهم في تذليل الصعوبات التعليمية للأشخاص ذوي الإعاقات البصرية، حيث يمكن من خلالها ضمان شمولية التعليم للفئات المُهمّشة داخل البلاد وتعزيز الأسس الدامجة للنظام التعليم الليبي، وذلك بتصميم استراتيجية تتماشى مع الهدف العالمي الرابع من أهداف التنمية المستدامة الذي يهدف إلى ضمان تعليم جيد وعادل لكل الفئات.
قبل نشر قصتها هنا، كانت مودة قد تخطت الامتحانات بنجاح مبهر وبتقديرات ممتازة، تستقبل الآن عامها الجامعي الأخيرمستعينة بخدمات المتطوعين. وتقوم السيدة الخمسينية خبلية في مشاركة جهودها مع منظمات حقوقية لدعم النساء، آملة في ضمان وصول الأجيال القادمة من أصحاب الإعاقات البصرية لتعليم شامل يمنح الفرصة للجميع.
إرسال التعليق