حرّاس الحقيقة؛ عن تحديات العمل الصحفي في ليبيا
محمود رحومه / دروج.
يجد الصحفي محمد عبدالرحيم صعوبة في العودة إلى عمله في الصحافة مجدّدا بعد سنوات من التوقّف. محمد شاب في الثلاثين من عمره، ويعمل مراسلا عن الجنوب الغربيّ للبلاد، لإحدى المِنصات الإخبارية الاقتصادية المحلية، بعد أن توقف عن العمل الصحفي لأكثر من 5 سنوات.
اليوم يستعيد نشاطه ويحاول أن يمارس المهنة التي لم يعرف سواها مجددا. يقول محمد: إنّه بدأ مذيعا في إحدى القنوات المحلية عام 2013. في ذلك الوقت كانت الأمور أكثر هدوء واستقرارا، كنتُ أخرجُ يوميا للشارع وأنجزُ مراسلات يومية من مواقع مختلفة بالمدينة، من المخابز والمؤسّسات الحكومية والخدمية، ومن المصارف والمستشفيات، والجمعيات، والنوادي الرياضية، وغيرها.
كانت تلك السنوات الذهبية في مجال الصحافة كما يسمّيها محمد، فقد كانت الأجواء مستقرّة إلى حد كبير وآمنة. الوقود متوفر والسيولة تتدفّق والقضايا الصحفية كانت متنوعة وممتعة.
لكن مع وقوع الانقسام السياسي من عام 2014 وانعكاسه على كل مناحي الحياة؛ تغير الوضع في عملنا، وصرنا أمام مشاكل مختلفة.
يواصل محمد حديثه عن الصعوبات التي بدأت تواجهه، بداية بإغلاق المؤسسة التي كان يعمل فيها، بسبب قصورها عن الوفاء بالتزاماتها المالية. وجد محمد نفسه عندها خارج إطار العمل الصحفي، وأصبح باحثا عن عمل، وإن لم يكن له علاقة بالصحافة.
واستمرّت قرابة 6 سنوات عمل فيها محمد عدة أعمال لم تكن الصحافة بينها، حتى أتته فرصة جديدة للعودة مراسلا ميدانيا عام 2022، ليستأنف ذات النشاط الذي كان يُمارسه لسنوات. يقول محمد تغير كل شيء في مدينتي وفي المهنة، وصارت صعوبات العمل الصحفي، مختلفة عن ذي قبل.
يقول محمد أول سؤال يُقابلني به الناس حين أبدأ عملي: “أنت تبع من؟ وقناتكم شن توجهها؟“
في السابق كنت أهتم بشرح وتوضيح الفرق بين كوني صحفيا وبين المؤسسة التي أعمل فيها. ولكن مؤخرا أصبحت أرد بابتسامة خفيفة على هذه التساؤلات، التي تحوي في طيّاتها مُصادرات واتهامات، وأمضي في عملي. قد لا يكون هذا التصرف سليما، ولكنني أجد فيه راحة عن الدخول في نقاشات لا طائل من ورائها.
صار محمد أكثر حذرا في تحرّكاته داخل المدينة، التي تتكرّر فيها حالات السطو المسلح، ويسهل فيها الاعتداء على من يمارسون الصحافة وأعمالها في الميدان.
كان محمد يحدثنا عن سيّارته معتمة الزجاج، والتي يرى أنها توفّر له حماية من أي مُباغتة قد يكون ضحيَّتها وهو يعبُر شوارع المدينة كل يوم مع معداته.
في الجنوب لن يستطيع الصحفي العمل كما تقتضيه مهنته، وسيراقب ويراجع ما ينجزه أكثر من مرة قبل أن يخاطر بنشره، فتعدّد المجموعات المسلحة وتغير أهوائها وانتماءاتها وولائها باستمرار، يضع الصحفي دوما في معضلة المصطلحات والتسميات، ويدفعه دوما لمتابعة تطوّر أحداث هذه المجموعات وآخر تحديثاتها وتبعياتها.
حتى المؤسسات الحكومية أصبحت تشكّل هاجسا كبيرا للصحفيين. قبل سنوات لم تكن تلك المؤسسات تحفل كثيرا بخطب وُدّ الصحفيين، وتكتفي بمكاتبها الإعلامية وحسب، ولكن في السنوات الاخيرة أصبحت تلك المؤسسات أكثر اهتماما ومتابعة لما ينجزه الصحفيون عنها. ولكن هذا لم ينعكس على شفافية هذه المؤسسات التي صارت تأمل تغطية نشاطاتها دون الولوج إلى بياناتها وأرقامها وكيفية إدارة مواردها، وصار الصحفي هنا بين توقعات الناس بأن يطلعهم على ما لا يستطيعون الاطلاع عليه، وبين المؤسسات التي لا تسمح له بأكثر من متابعة نشاطاتها.
في الشارع، تتعدّد المصاعب، فالحياة في مدينة مثل “سبها” تظل دوما محفوفة بالمخاطر على الشخص العادي، فما بالك بالصحفي الذي لا يستطيع العمل خفية؟!
الناس أحيانا يلقون على الصحفي جامّ غضبهم ويعتبرونه من أسباب شقائهم، يقول حسام علي، وهو صحفي محلي، إنّه تعرّض في مرّات عديدة للاعتداء عليه من قبل أناس عاديّين في المصرف.
يبتسم حسام وهو يتحدث عمّا لقيه في إحدى التغطيات الصحفية من داخل مصرف بالمدينة، يقول:
“كنت أحمل الكاميرا وأصور بكل ثقة كوني أقف مع الناس وأنقل معاناتهم، قبل أن أسمع تعليقات تتهمني بالشماتة وبعضها يستهجن عملي في تصوير الازدحام. ثم بدأ بعضهم بالتطاول عليّ قبل أن أتمكّن من الخروج من وسط تلك الحشود والنجاة بنفسي ومعداتي.
يقول حسام نفتقد -بصفتنا صحفيين- روح العمل الجماعي، وهذا يزيد من صعوبة عمل كل منا، رغم بعض المواقف الاحتجاجية التي اتخذت بشكل جماعي عند بعض التجاوزات، ولكنها تظل مواقف لحظية أو آنية وليست سياسة أو ثقافة عامة يجب أن تعزز.
يضيف نائب رئيس نقابة الصحفيين والإعلاميين بسبها عبدالمنعم الجهيمي أن أغلب الصحفيين في الجنوب يعملون من دون عقود عمل واضحة ومفصلة مع مؤسساتهم، وجلهم مهدّد بالخصم والطرد التعسّفي في أي وقت، كما أن مؤسساتهم لا تكترث بسلامتهم ولا تقدر خصوصيّة عملهم في منطقة متوترة مثل الجنوب.
يقول الجهيمي حتى الصحفيون الذين يملكون عقود عمل، فهي في الغالب عقود مجحفة وتسير لصالح المؤسسة أكثر منها لصالح الصحفي، بل إن بعض العقود لا تطابق قانون العمل الليبي، وهذا يجعل الصحفيين تحت ضغط دائم وخوف من فقدان وظائفهم، وبالتالي يؤثر على عملهم وما يُتوقع منهم من متابعة وكشف للفساد ومعالجة للملفات الشائكة.
في الجنوب تتعقد الصورة أمنيا واجتماعيا واقتصاديا، ويصبح الصحفي بين أمواج متلاطمة من الحسابات والاعتبارات التي يجب أن يضعها أمامه قبل أن يخرج من بيته وقبل أن يضغط زر الإرسال، وسيحتاج للكثير من الوقت حتى تُسَنَّ قوانين تحمي حقوقه وعمله وتحترم حقه في الوصول للمعلومة، وتخرجه من تلك الصورة النمطية التي حصرته في موثق للاجتماعات، والنشاطات، والحفلات، والمهرجانات.
إرسال التعليق