منصور عاطي.. سكان الكُفرة واللاجئون السودانيون
تشهد مدينة الكفرة موجة كبيرة من توافد اللاجئين السودانيين الفارين من ويلات الحرب السودانية، والتي بدأت فصولها في 15 أبريل 2023 بين قوات الجيش السوداني بقيادة برهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي، وما تزال مستمرة حتى الآن، مما تسبب في أكبر أزمة نزوح في العالم حسب تقديرات مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية؛ ما يقدر بنحو 9.05 مليون نازح حتى تاريخ 31 ديسمبر 2023.
وفي آخر تحديث، أفادت مصفوفة النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة أن حوالي 13,500 شخص قد نزحوا حديثاً في السودان خلال الأسبوع الماضي، ومع استمرار رحى الحرب لجأ العديد من السودانيين الى الأراضي الليبية، وكان لمدينة الكفرة النصيب الأكبر لموقعها الحدودي مع السودان، إلا أن الأزمة بدت تتفاقم هي الأخرى بالمدينة التي تعاني من نقص في الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، ناهيك عن الوافدين إليها. ويقدر عدد المهاجرين من دولة السودان بين 9 و10 آلاف فرد، حسب الإحصائيات الأولية التي رصدت من قبل المنظمات العاملة على الأرض.
وعلى الصعيد الرسمي، لم تصرح بلدية الكفرة بأي أعداد فيما يخص اللاجئين السودانيين، إلا أنها قامت بتشكيل لجنة طوارئ بالخصوص لمحاولة احتواء الأزمة، ولكن هذه اللجنة -وحتى هذه اللحظة- لم تتلقّ أي دعم سواء من حكومة حمّاد التي تعتبر بلدية الكفرة ضمن حدودها الإدارية، ولا من حكومة الوحدة الوطنية التي هي الأخرى تتحمل مسؤولية أخلاقية اتجاه المدينة وسكانها، ووسط هذا التجاهل بدت تظهر مشاكل لا تقل عن الأزمة الرئيسية أهمية، منها:
انهيار في القدرة الإغاثية والإيوائية بالمدينة. فعلى سبيل المثال تعمل جمعية الهلال الأحمر بمخزون استراتيجي ضعيف جداً لا يلبي الاحتياجات الملحة للاجئين.
التصاعد المتسارع في إيجارات المساكن؛ فقد ارتفعت الأسعار بمعدل ثلاثة أضعاف عن ذي قبل، لتصل حتى 2000 دينار للشهر الواحد. كما أن أسعار المواد الغذائية هي الأخرى ارتفعت، وكذلك هو الحال فيما يخص البنزين والنافته على رغم من توفرها بشكل متقطع في مراكز التوزيع المعتمدة، إلا أن المحطات تشهد ازدحامًا رهيبا مما جعل “السوق السودا” تنشط بشكل استغلالي مقيت، حيث وصل سعر لتر البنزين إلى 7 دينارات.. يحدث كل هذا في ظل تجاهلٍ تام من الحكومتين بشرق البلاد وغربها، وغياب الدعم للمؤسسات المحلية كالهلال الأحمر وفِرق الكشافة، بالإضافة إلى غياب دور المنظمات الدولية عن هذه المأساة التي يعيشها اللاجئون السودانيون في مدينة الكفرة وتعيشها المدينة التي يقدر عدد سكانها بـ60 ألفًا، ولا تتوفر فيها القدرة الاستيعابية لهذا العدد من اللاجئين .
وتتمثل الاحتياجات المستعجلة للاجئين الذين يعانون البرد القارس في تلك الصحراء التي يشكل مناخها تحدياً آخر: في توفير المواد الغذائية، وأواني الطهي والتدفئة، كما أن أغلبهم جاء على عجل هارباً من الموت، لا يضع على جسمه ما يحميه من قساوة البرد. ومن جهة أخرى، فإن الأطفال والنساء هم الفئات الأكثر هشاشة، ولا تتوفر للمرضى منهم أي مقومات رعاية صحية، ولا يستطيعون الوصول إلى الخدمات الصحية بالمدينة، ولا يقدرون على دفع تكاليف التنقل والعلاج، ولا سيما أن منهم أعدادا جاؤوا وهم يعانون أمراضًا في الجهاز التنفسي ونزلات معوية حادة.
كل هذا يحدث أيضًا على مرأى ومسمع العالم أجمع، فلا حكومات حركت ساكناً ولا منظمات دولية رفعت معاناة أو خففت ألماً، ولا أغاثت ملهوفاً أو ضمدت جرحا. وحقيقة، لا أجد تفسيراً لماذا أدار الجميع وجوههم عن هذه الكارثة الصامتة؟ أهي حسابات سياسية أم متاجرات مؤجلة بملف إنساني؟ كان من الأولى أن يتسابق كل من يهمه الأمر لتقديم العون والمعونة ورفع المعاناة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وأنا أكتب هذه الكلمات الخجولة التي لا تفي وصف ما يحدث، ما يزال اللاجئون يتوافدون على المدينة، وما زالت البلدية تنتظر الغوث والمساعدة من الحكومات، وتظل الأعين معلقة في قافلة تأتي من هنا أو من هناك لسد الاحتياجات المستعجلة.
وقبل أن أختم حديثي أود أن ألفت انتباه القارئ إلى مسألة في غاية الأهمية، ألَا وهي مداومة البعض على شيطنة اللاجئين وإظهارهم بمظهر اللصوص أو المجرمين، ووصف عملية إيوائهم ونجدتهم بانتهاك للسيادة.. هذه المفاهيم المغلوطة والمتكررة كارثة أخلاقية قائمة بحد ذاتها، تجعلنا نعيد التفكير في مبادئنا ومفاهيمنا وأخلاقياتنا، ونتذكر بكل موضوعية وهدوء أن آلاف الليبيين عاشوا هذه التجارب المرة عدة مرات خلال تاريخ ليبيا القريب والحافل بالحروب والحظ العاثر، وأن الهجرة والنزوح هي مسألة إنسانية بحتة، لا دخل لنظرية المؤامرة بها.
يتوجب علينا أن نرى الدنيا بعين الإنسانية، ونتحدث بلسان عدم التمييز والتحيّز، ونمد أيدينا بكل ود لكل من يحتاج إلى المساعدة، وهذا أسمى ما قد يتصف به مجتمع قائم على احترام نفسه وتاريخه وتضحياته من أجل الحرية والحق.
.
إرسال التعليق