رضوان خشيم: “أربعون سنة من التحريض والتأجيج”
“رفضتُ أن أكون جزءًا من لعبة قذرة، طلب مني مديري كتابة خطاب كراهية وتشهير بثلاث شخصيات معروفة، دون أي أدلّة أو معلومات حقيقية، مُجرد كلام، وعندما رفضت، هدّدني بالطرد من العمل”. بهذه الكلمات، تُلخّص الصحافية سهام اليوسفي تجربتها مع واحدة من المؤسسات الإعلامية الليبية المروجة لخطاب الكراهية خلال حرب طرابلس عام 2019.
لم تحتج سهام إلى وقت طويل لتدرك أنها أمام وسيلة إعلام لا تبحث عن الحقيقة، بل تتعمد تزييفها وتوجيهها وفق أجندات معينة. لم تكن وحدها، فالكثير من الصحافيات والصحافيين وجدوا أنفسهم أمام معضلة أخلاقية مُشابهة، بين الانخراط في لعبة الكراهية أو مواجهة ضغوط الطرد والتهميش.
بيانات الهيئة العامة لرصد المحتوى الإعلامي لعام 2022 تُظهر أن نسبة كبيرة من المخالفات الإعلامية في ليبيا تتعلق بمحتوى يتضمن تحريضًا صريحًا، سواءً بالدعوة إلى تصفية شخصيات سياسية أو اجتماعية، أو باستخدام لغة تتجاوز النقد إلى التشويه والتخوين. كما أن السب والقذف أصبحا أدوات تُستخدم بشكل متكرر في الخطاب الإعلامي، مما يعكس غياب المعايير المهنية في كثير من المنصات.

مدن وصحافيون دفعوا ثمن خطاب الكراهية والنزاع
خلال أحداث 2011 في ليبيا، اتُهم بعض أبناء مدينة تاورغاء بالمشاركة في أعمال إجرامية ودعم نظام القذافي، مما أدى إلى تعميم هذه الصورة على جميع سكان المدينة. هذا التعميم، مدفوعًا بخطاب الكراهية المنتشر عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، أدى إلى تهجير قسري لسكان تاورغاء، الذين ما زالوا يعانون من صعوبات في العودة إلى ديارهم. (أهالي تاورغاء الليبية يستعدون للعودة بعد سنوات من التهجير الجزيرة – يوتيوب)
في السياق يقول الصحافي عياد عبد الجليل (أحد أبناء تاورغاء) “خطاب الكراهية شرّد مدينتي ولن يسكت صوتي”، مضيفًا أن خطاب الكراهية الذي تفشى بعد العام 2011 كان عاملاً رئيسيًا في معاناة مدينته وتأخير عودة أهلها.
يقول عياد: “عاشت تاورغاء سنوات من التهجير، ليس فقط بسبب الأحداث التي وقعت خلال الحرب، بل لأن خطاب الكراهية غذّى الانقسام وكرّس التعميم والشيطنة الجماعية. الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي ضخّمت هذه الصورة، مما جعل العودة إلى مدينتنا تحديًا صعبًا لسنوات”.
لم يقتصر تأثير هذا الخطاب على مدينته فقط، بل طاله شخصيًا، حيث تعرض لحملات تشويه بسبب انتقاداته الإعلامية، ويضيف: “عندما انتقدت بعض الجهات، واجهت هجومًا إلكترونيًا ممنهجًا، حيث جرت محاولة تشويهي وتصويري كشخص يسعى لإثارة الفتنة. لم يكن الأمر مجرد كلام، فقد تم اعتقالي مرتين، وكانت تلك التجربة قاسية، لكنها لم تكسر قلمي”.
ورغم هذه التحديات، يؤكد عياد أنه لا يزال متمسكًا بمهنته وقناعاته: “لا يمكنني الصمت عن الحقيقة، مهما كانت العواقب. الصحافة بالنسبة لي ليست مجرد مهنة، بل مسؤولية، وسأواصل أداء دوري مهما مورست عليّ الضغوط”.
أزمة مستدامة: جذور المشكلة وتطورها
لا يُعتبر خطاب الكراهية في الإعلام الليبي بظاهرة حديثة، بل هو امتداد لعقود من التحريض الممنهج. وعليه يوضح مدير مكتب الخبراء في الهيئة العامة لرصد المحتوى الإعلامي رضا الهادي رمضان، أن هذه المشكلة كانت جزءًا من المشهد الإعلامي الليبي حتى قبل العام 2011، حيث استخدم النظام السابق الإعلام كأداة للتحريض.
“كانت وسائل الإعلام تبث الهتافات التي تدعو إلى تصفية المعارضين خلال عمليات الإعدام العلنية، مثل: “صفيهم بالدم وسِر ولا تهتم”، وهو خطاب تحريضي مباشر”.
ووفقًا لرمضان، فإن خطاب الكراهية لم يبقَ في إطاره التقليدي بعد 2011، بل تطور وأصبح أكثر انتشارًا خلال فترات الصراعات المسلحة.
“كلما دخلنا في صراع مسلح، تتصاعد لغة التحريض بشكل كبير. رأينا ذلك في 2011 (ثورة فبراير- إسقاط النظام)، ثم في 2014 (انقسام سياسي مسلح)، ثم في 2019 (هجوم حفتر على طرابلس). حتى في الانتخابات، يُستخدم خطاب الكراهية كأداة لتصفية الخصوم سياسيًا وإنسانيًا، حيث يتم استهداف الشخص معنويًا ومحاولة قتله رمزيًا في الوعي العام”.
ومع انهيار الضوابط الإعلامية الهشة أساسًا، انفجر هذا الخطاب بشكل غير مسبوق، حيث تحولت العديد من القنوات والمنصات إلى ساحات مفتوحة للتخوين، السب، القذف، والتحريض، دون أي محاسبة أو رقابة قانونية.
تشير بيانات إدارة الرصد في الهيئة العامة لرصد المحتوى الإعلامي إلى أن بعض المؤسسات الإعلامية ارتكبت سنويًا ما بين 10 إلى 20 نوعًا مختلفًا من الخروقات، تتراوح بين التحريض والتشهير والسب وغيرها، ما يُعد مؤشرًا على تنوّع وحجم التجاوزات الإعلامية المتزايدة في ليبيا.
لا تزال إجراءات ضبط الإعلام في هذه النقطة محدودة، ومع غياب قوانين صارمة تُحاسب المؤسسات الإعلامية التي تتبنى خطاب الكراهية، يبقى تأثير هذه المخالفات مستمرًا، مما يعزز بيئة إعلامية غير مهنية تسهم في توتر المشهد العام.

قوانين مليئة بالثغرات تستهدف الصحافيين أكثر من المحرّضين
تُعتبر القوانين في أي بلد يواجه موضوع خطاب الكراهية المكافح الأول لخطورة هذه المظاهر وتخفيف انعكاساتها على المجتمع، ولكن ماذا عن ليبيا؟
تؤكد المحامية والمستشارة القانونية فاطمة عبد الله، أن القوانين الليبية المتعلقة بخطاب الكراهية غير واضحة في تحديد العقوبات الفعلية ضد الجهات التي تُروّج لهذا الخطاب، لكنها تُستغل في المقابل لتضييق الخناق على الصحافيين المستقلين ومنظمات المجتمع المدني.
“المشكلة ليست فقط في غياب قوانين تحاسب وسائل الإعلام التي تروج لخطاب الكراهية، بل في وجود قوانين يتم استخدامها ضد الصحافيين أنفسهم، مثل المادة 195 التي تُوظف في ملاحقة الصحافيين والنشطاء بدعوى إهانة السلطات”.
إضافة إلى ذلك، المادة 208 من قانون العقوبات التي تُجرّم تلقي التمويل الخارجي “لأغراض مضرة بالمصلحة الوطنية”، وهو نص فضفاض يُمكن أن يُستخدم ضد المؤسسات الإعلامية التي تتلقى تمويلًا لدعم حرية الصحافة ومكافحة خطاب الكراهية.
كما تنص المادة 245 على السجن لكل من ينشر عبر وسائل الإعلام ما يمكن أن يعتبر تحريضًا أو دعوةً إلى الفوضى، مما قد يؤدي إلى ملاحقة الصحافيين الذين يغطون الأحداث السياسية أو الأمنية، حتى وإن كانت تقاريرهم تستند إلى أدلة وحقائق. (قانون العقوبات الليبي – موقع التشريعات الليبية)
“هذه المواد القانونية تمنح السلطات أداة قانونية واسعة لاستهداف الأصوات المستقلة وتقويض أي جهود لمساءلة وسائل الإعلام المتورطة في نشر خطاب الكراهية”.
كيف يمكن مواجهة خطاب الكراهية؟ دور المجتمع المدني في الحل
ترى عائشة الحبوري، الخبيرة في فض النزاعات وصنع السلام، أن الإعلام يمكن أن يكون أداة للسلام بدلًا من تأجيج الصراعات. وتشير إلى أن بعض وسائل الإعلام تركز على التفرقة بين فئات المجتمع، بينما يمكن أن يكون لها دور أكثر إيجابية.
“حين يركز الإعلام على إبراز القواسم المشتركة بدلًا من تعميق الانقسامات، فإنه يسهم في بناء السلام. لغة التخوين والتحريض تؤجج الصراعات، بينما يمكن للبرامج والقصص الإنسانية أن تخلق بيئة من التفاهم”.
وتؤكد الحبوري أن الإعلام قد لعب دورًا في تعزيز المصالحة في دول أخرى شهدت نزاعات مماثلة، حيث تم استخدامه لإعادة بناء المجتمعات من خلال بث محتوى يشجع على التسامح والتعايش المشترك.
“في بعض الدول، تم استخدام الإعلام لنشر ثقافة التسامح وإعادة بناء الثقة بين الفئات المختلفة، بدلًا من الاستمرار في تغذية العداوات. يمكن تطبيق هذه التجربة في ليبيا من خلال تغيير الخطاب الإعلامي ليكون أكثر وعيًا ومسؤولية”.
من جانبه، يشدد رئيس مفوضية المجتمع المدني السابق بمصراتة رمضان معيتيق، على أن المجتمع المدني يجب أن يكون شريكًا أساسيًا في مكافحة خطاب الكراهية، مشيرًا إلى أنه هناك بالفعل بعض المؤسسات والجمعيات والمراكز التي حاولت وضع حد لهذا الخطاب، إلا أن جهودها لا تزال ضعيفة مقارنة بحجم انتشار الكراهية في الإعلام الليبي.
“هناك بعض المؤسسات والمراكز المعنية بالإعلام التي بذلت جهودًا ملموسة لمواجهة خطاب الكراهية، لكنها لم تلقَ الأذن الصاغية أو الدعم الكافي. لا يمكننا أن ننأى بأنفسنا عن هذه المشكلة دون إشراك مؤسسات المجتمع المدني في وضع الحلول العملية لإنهاء أو الحد من خطاب الكراهية في وسائل الإعلام”.
ويؤكد معيتيق أن الحل لا يمكن أن يقتصر على القوانين أو الإعلام فقط، بل يجب أن يكون هناك دور واضح للمجتمع المدني في حملات التوعية، والتنسيق مع الجهات الإعلامية، ووضع استراتيجيات وطنية لمواجهة الظاهرة.
“تم إنتاج هذا التقرير بدعم من الاتحاد الأوروبي ضمن زمالة تأثير النزاعات والحروب على تغطية الصحافة والإعلام، وهذا المحتوى لا يعكس بالضرورة وجهة نظر الاتحاد الأوروبي”.
إرسال التعليق