انتصار البرعصي: “هل ينظم الفن الفوضى، أم يثيرها؟”
أثارت منحوتات في عدد من ميادين مدن ليبية في السنوات الأربع الماضية جدلا ونقاشًا مجتمعيًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وفي القنوات الإعلامية. وتركز هذا النقاش حول القيمة الجمالية والفنية لهذه المنحوتات التي اتفق غالبية من رفض وجودها على عدم جماليتها، وطالبت الحملات في نهاية النقاش بإزالة هذه المنحوتات.
ومن هنا نبدأ سؤالنا عن وظيفة الفن.. وربما سيكون من الأفضل أن نعّرف الفن أولًا.
تعرّف الموسوعة البريطانية الفن على أنه التعبير عن الأفكار الجمالية، عن طريق توظيف المرء لخياله وإبداعه، ويقسم الفن إلى الفنون البصرية وتشتمل على الرسم، والنحت، والعمارة، والجرافيك، والفنون التشكيلية.
والفنون الأدبية كالدراما، والقصة، والشعر، وفنون الأداء كالموسيقى، والمسرح، والرقص، ويبقى تعريف الفن غير محدد لارتباطه بالعديد من فروع المعرفة مثل الفلسفة، وعلم النفس، والتاريخ، والصناعة، والتسلية، وبمختلف الأنشطة الإنسانية.
وظائف الفن
نحتاج للتفكير في ثلاث نقاط أساسية عند وصف وظائف الفن:
وظيفة شخصية
وهي ذاتية تتعلق بالفنان وتختلف من فنان لآخر، حيث ينشأ الفن من رغبة الفنان في التعبير عن ذاته، وللفن وظيفة شخصية للمشاهد أيضا، إذ يتلقى الناس العمل الفني كل حسب فهمه وشعوره وحاجته وثقافته.
الفنان التشكيلي الليبي علي المنتصر طور أدواته التعبيرية والبصرية خلال تجربته الشخصية عبر تقديم سلسلة من الأعمال الفنية على مراحل زمنية.
ركز المنتصر على ثنائية الإنسان في تعامله مع ذاته من جهة، ومع العالم الخارجي من جهة أخرى، في عدة أعمال منها مجموعة “الإنسان المعاصر” و”تشوّه“، وأسس معرضًا خاصًا به في طرابلس، ومفتوحًا على الدوام.
يخبرنا المنتصر أن سلسلة “تشوّه” نتاج أكثر من 3 عقود من الفعل الإبداعي لرصد قضايا إنسانية شائكة نتائجها مرعبة ومشوهة، بفعل كائن بشري لا زال يعبث بأساسياته من أجل كماليّته.
وظيفة اجتماعية: وتأتي عندما يتناول الفن جوانب من الحياة الجماعية، على عكس وجهة نظر الشخص الواحد أو خبرته، وتنقسم إلى قسمين:
1- وظيفة اجتماعية معرفية تربوية
إذ يزودنا الفن بمعارف عن الناس وعن عالمهم الداخلي، وقد نقلت أعمال الفنانين في الماضي وحتى اليوم عادات وتقاليد الآلاف من الناس، والذين بقت ذكراهم في شكل لوحات، أو قصص روتها مقطوعات موسيقية، أو قصائد ونصوص أدبية، أو أعمال سينمائية.
وربما تجسد أعمال التشكيلي عوض عبيده التي وثقت بعضا من العادات في ليبيا فترة السبعينات، هذه الوظيفة أفضل تجسيد.
2- وظيفة اجتماعية ترفيهية
وتتمثل في قدرة الفن على تقديم المتعة الجمالية، ويمكن لقيمة الفن المعرفية أن تلغى تمامًا، إذا لم يُقلق الفن الجمهور، ولم يُثر فيهم الاستجابة الانفعالية، أو يقدم لهم قيمة جمالية ما.
وظيفة الفن المادية
تتعلق وظيفة الفن المادية باستخدامنا للأعمال الفنية، كأن نسكن في منزل الفن فيه يتمثل في تصميمه المعماري، أو نجلس على كرسي بتصميم إبداعي، فهذه الأعمال الفنية تشبع حاجات الناس العملية، وتزين حياتهم في الوقت ذاته.
بدأ المصمم المعماري فيصل البناني مسيرته المهنية عام 1975 في كل من ليبيا والولايات المتحدة الأمريكية، والإمارات، وتعد فترة عمله بأمريكا من المحطات التي صقل فيها معرفته بعلم المستوطنات البشرية بعناصره (الإنسان، المجتمع، المأوى، الشبكة المدينية، الطبيعة والعلاقات المتداخلة بين هذه العناصر).
من بين التصاميم التي يعتز البناني بتصميمها سلسلة “دارات”، وتعكس رموز ومفردات العمارة المحلية في محاولة للوصول إلى عمارة معاصرة دون تغريب، واستلهم تصاميمه من مباني تاريخية منها السرايا الحمراء، وجامع سيدي عبد الوهاب، ومدينة غدامس القديمة.
ويعكس مثلا تصميم “دارة غدامس“، عمران مدينة غدامس القديمة، في محاولة لاختبار مدى ملائمته للحداثة المعاصرة.
ولعل فترة القطيعة التي فرضتها سنوات حكم نظام القذافي الذي صادر حرية التعبير، والتي كانت الفنون أحد أشكالها، تصعب مهمة الفنانين اليوم للقيام بعملهم، وتحد من دور الفن لأداء وظائفه.
لكن هذا لم يكن عائقا أمام الشغوفين بفنهم، والطامحين لبناء ثقافة فنية أدبية ووعي مجتمعي يؤمن بدور الفنون وحق الإنسان في أن يمارس الفن وظيفة وتعبيرًا حرًا، وأن يتمتع بجمالياته متلقيًا وجمهورًا.
فضاءات ليبية لممارسة الفن
يظل الفنان باحثا عن وسط يفهم ويحس ويشارك ما يمارسه من فن، وهذا يقودنا للحديث عن الفضاءات الجماعية التي يلتقي ويطور الفنانون فيها مهاراتهم؛ منذ عام 2011 تأسست منظمات مدنية لدعم الإنتاج الفني والفنانين.
ومن هذه المنظمات آريتي الثقافية، ليبيا للأفلام، وحبكة لفناني الكرتون، وتاناروت الثقافي، وسينما الشباب، وفاصلة للأعمال الأدبية الإبداعية، وسين للثقافة والفنون، وبراح للثقافة والفنون، وبلد الطيوب، والموسم التشكيلي، ونادي عوض عبيده للفنون التشكيلية، ومنطقة فن، وآركنو، وغيرها كثير.
وسنستعرض في مقالنا عددًا من هذه المؤسسات، ونبدأها بموقع بلد الطيوب الذي تأسس في 22 سبتمبر من عام 2000، كاستضافة مجانية، للتعريف بالأدب والليبي، والأدباء والكتاب الليبيين، والثقافة الليبية.
مؤسس الموقع ورئيس التحرير رامز النويصري يرى أن الموقع قد أثبت منذ انطلاقه، وجوده كأول وأقدم موقع ثقافي ليبي، حظي باحتفاء الأدباء والكتّاب في ليبيا.
يحتوي الموقع على أكثر من 20,500 مادة منشورة، وقائمة لأكثر من 330 كاتب ليبي وعربي، وهو الآن من أهم المصادر للتعريف بالأدب الليبي نصوصاً وكتبًا.
غير أن الموقع يواجه صعوبات مالية تمنع تطوير أداءه، وتوسيع قاعدة عمله، يقول النويصري “تلقينا دعمًا للإشراف الفني على الموقع، من خلال شراكة مع إحدى المؤسسات الإعلامية، والتي تتولى أيضًا دعمًا تقنيًا ولوجستيا لبلد الطيوب“.
وفي عام 2016، أسس مجموعة من الشباب نادي عوض عبيده للفنون التشكيلية بمدينة بنغازي، بقيادة الفنان التشكيلي محمد البرناوي.
ويهدف النادي لنشر ثقافة الإبداع لدي الأطفال والشباب، وتنمية مهاراتهم الفنية ورفع مستوى الحس الجمالي، ونشر الفن بطريقة أكاديمية، وتعزيز الوعي المجتمعي بأهمية الجمال والارتقاء بالذوق العام.
فيما تأسست منطقة فن بمجهودات ذاتية عام 2019، وبدأت نشاطها كمنظمة مجتمع مدني عام 2022 بهدف تكوين محطة للفنانين والهواة في المجالات الإبداعية، لدعم المبتدئين بالتدريب من خلال مجتمع يضم فنانين من كل ليبيا.
آلاء عادل مسؤولة العلاقات العامة بمنطقة فن تتحدث عن كون الصعوبات المادية أبرز ما واجه المنظمة، غير أن شغف فريق فناني المنطقة لممارسة الفن والتوعية بدوره، كان دافعًا لاستمرار المشروع قرابة الـ 4 سنوات.
ومن الواضح أن تحدي التمويل هو أحد أكبر الصعوبات التي تواجهها المشاريع، وقد تسبب هذا الأمر في توقف مشاريع رائدة، منها “حبكة” المهتمة بمجالات الكوميك والأنيميشن والمانجا، وتجمّع “تاناروت” الفني الثقافي الذي توقف لعدم توفر مقر لممارسة أنشطته، وغيرها من المبادرات.
لكن يبقى لهذه المشاريع – وإن توقفت – دور مهم في تشجيع استمرار النشاط المدني المهتم بالثقافة والفنون، وتوعية المجتمع وإلهام كثير من المواهب لاحتراف العمل الإبداعي.
إرسال التعليق