شاب يحقن دماء مدينة كاملة، قصة ملهمة عن المصالحة الوطنية
إعداد / عبد المنعم الجهيمي
في 28 من نوفمبر 2021 كنتُ وسط جمعٍ كبير من الأعيان والحكماء، من مختلف مناطق ليبيا، وجميعهم ينتظر مني كلمة مُوافِقة لأحقن دماء أبناء مدينتي وأمضي بالمفاوضات إلى الأمام، لم أتخيل أن أكون ذات يوم في موقف مهيب كهذا. كان الحُزن على فِراقِ والدي قريبا، ولم أعتد الوقوف أمام الناس في حياته، فقد كان يحمل عنا ذلك ونكتفي بمشاهدته، اليوم أنا أقف مكانه لأتحدث عنه وعن إخوتي وأهلي.
اسمي محمد عبد السلام الشارف عمري 29 عاما وأعمل مسوّقا للشاي في سبها.
قُتِلَ والدي منتصف نوفمبر عام 2021، ضمن سلسلة من الثارات الاجتماعية التي لم تنتهِ، ولم يكن لوالدي يدٌ فيها، سوى أنه كان يسعى للإصلاح ما استطاع إلى ذلك سبيلا، كان يوم مقتله يوما داميا، فقد جاء بعد فترة من الهدوء بين الأطراف المتنازعة، وكان يخرج دوما لقضاء الحوائج ويجول المدينة آمنا، كونه لا يملك ضغينة لأحد، ويرى أنه غير مستهدف لمكانته وشيبته، ولكن حاصره مسلّحون وقتلوه في إحدى شوارع المدينة نهارا أمام المارة.
بعد مقتله اندلعت حرب في حينا بالمهدية (أحد أحياء مدينة سبها) بين أطراف النزاع، شلت هذه الحرب الحياة في جانب كبير من المدينة، فأغلقت المحال التجارية والأسواق والورش، وتعطلت حركة المرور، وتوقفت المؤسسات العاملة في نطاق الحي، واستمر القتال أياما سقط فيه العديد من الجرحى وتضررت الكثير من المنازل ونزحت عائلات كثيرة للأحياء المجاورة، واستمر الوضع على هذه الحال حتى وصل وفد من الأعيان والحكماء من بني وليد ووفد من المنطقة الشرقية فضلا عن وفود قبائل من الجنوب، سعيا للصلح بين اطراف النزاع، ووقف سلسلة الدم بينهما.
بدأت المشاورات واللقاءات مع المتضرّرين وأولياء الدمّ، وكانت مفاوضاتٍ صعبة وعسيرة بسبب تعقد الأحداث وتشابكها على مدار سنين طويلة، كان جوهر المفاوضات وقضيتها الأساسية هي مقتل والدي، وطلبنا تسليم القتلة لجهة محايدة، لكن الأعيان والحكماء توصلوا لصيغة اجتماعية سعيا منهم لحقن الدماء بشكل أكثر استدامة، واحتاجوا إلى أن أوافق أنا وبقية أهلي عليها حتى يمضي الاتفاق.
أتذكر جيدا تفاصيل ذلك اليوم الذي اجتمع فيه الأعيان وكنت جالسا بجانب أكبرهم، كنت استمع لحديثهم حول الصلح والسلام الذي تحتاجه مدينتنا، اقترب مني شيخ جليل وهمس لي أن مصير المدينة وعائلاتها متوقف على أن نتفاعل ونتسامح ونساعد الأعيان في الدفع بالمفاوضات للأمام.
للحظات جلت بخاطري واستذكرت المدينة قبل سنوات طويلة، واستحضرت مخيلتي مناظر الحرب والاشتباكات وانقطاع أحوال الناس، تذكرت مساعي والدي للصلح وكيف كان حريصا على حقن الدماء، تخيلت أن مدينتنا ستكون افضل بلا حروب وقد يكون قرارنا أكبر ما نهديه لذكرى والدي.
وقفت أمام الجميع وقلت لهم: “أي حل ينهي المشكلة ويحقن الدماء نحن معاه، وزي ما كان بوي رجل الصلح والمصالحة حيا بيكون هو هو رجل الصلح والمصالحة ميتا” لم أتوقع أن تقع كلماتي موقع الرضا من الجميع، الذين أتوا للسلام عليَّ مجددا وبدأوا في سرد نقاط الصلح، والذي تضمن الإبعاد بين الطرفين وخروج عدة عائلات من الجنوب درءً للفتنة ومنعا لأسباب الاحتكاك السلبي بينهم.
كانت هذه الاتفاقية مبعث فرح في المدينة، وعادت بعدها الحياة للشوارع التي كانت مغلقة، ودبّت الحياة من جديد في أوصال الحي، وبدأ الجميع يخططون لحياة جديدة، هذا المشهد لم أتخيل جماله وروعته قبل ذلك، وبدأت أنا رحلتي للعمل مجددا، والبحث عن مصدر قوت لي ولأسرتي يكفينا ذل الحاجة.
اليوم، وبعد أكثر من سنة وعدة أشهر على تلك التجربة التي عشتها بصعوبة، لم أشعر بالندم على قرار اتخذته، وأشعر برضا كبير عن الحالة التي أوجدها الصلح، أحس بأن والدي سعيد بحقن الدماء وتآلف الجميع وتحقق ما كان يسعى إليه، أعمل مسوّقا للشاي لصالح إحدى الشركات المحلية ونجحت في عملي وتميزت إلى حدّ كبير، حتى صرتُ في منصب مهم داخل الشركة، وعاد اخوتي لأعمالهم ومواجهة الحياة بحلوها ومرها.
نيل الثأر وإشعال الحروب أمر سهل المنال ويمكن أن ينفّذه أي شخص، ولكن أن تكبر فوق نفسك وتعفوَ وتصفح وتعيد الحياة وتوقف سلسلة الدماء والثارات وترجع لحياتك الهادئة البسيطة امر لا يحسنه الجميع، وانا سعيد أني انتصرت على نفسي أولا وانتصرت على كل الأحقاد.
إرسال التعليق