×

منصور عاطي: “لا زلنا نريد قول المزيد من الحقيقة”

0909 1 28

منصور عاطي: “لا زلنا نريد قول المزيد من الحقيقة”

يا إلهي..

لا زلنا نريد قول المزيد من الحقيقية، ولكن مُدّنا بالوقت والمعرفة!

في اليوم العالمي لحرية الصحافة، لعل المرء يستطيع أن يكتب عن الصحافة ولكنه قد لا يجرؤ على الحديث عن حريتها، لأن الحديث عن الحرية -أيّاً كان مصدرها- يحتاج إلى مناخ حُر وبيئة آمنة، وهذا ما لم تجده الصحافة على طول الطريق المؤدي إليها. كل ما تراه، هو ما تريد السلطة عرضه من عناوين تجعلك تنتقل من الواقع إلى المأمول بالنسبة لها، دون أن تراه حقيقة ماثلة أمامك.

كان الوضع كذلك ما قبل ثورة 17 فبراير، فقد كنّا نحن عُمّال الصحافة ممن يعملون تحت مقصلة الرقابة -متعددة الأذرع- ننازع ذواتنا من خلال ما نريد أن نقول وما نعلنه فعلًا، وحدث هذا معي شخصيّا عندما كنت صُحفيّا في جريدة محلية تصدر على نطاق حدود مدينتنا الإدارية، فقد كانت كل العناوين تمتاز بالخجل وإن كانت صادقة، كنا نختار مواضيعنا بطريقة تجنبنا مغبة الاستجواب والمصادرة؛ نلامس هموم الناس دون أن نضع إصبعنا على الجرح. كان يكفينا من نقل المعاناة أن ندع الجرح ينزف دون أن نوّجه أصابع الاتهام، فقد كان العدد يخضع للرقابة قبل النشر، وكان موظف جهاز الأمن الداخلي يقوم بزيارات صباحية منتظمة ليذكرنا بـ”زيارات الفجر” دون حاجته إلى الكلام، وكان الجهاز في حد ذاته ضليعًا في تأويل العناوين وجعلها تهمًا، حتى وإن كانت تناقش شأنًا رياضيا، وحتى غنّاوة العلم أو القذّارة كانت توضع تحت مجهر الرقابة لكي يتم استنطاقها بما لم تعنيه، فقد كانت السلطة تعلم أن الشعر أداة تعبير ذائعة الصيت في مدينتنا، التي لا تملك سوى الشعر لتعبرعن نفسها.

أما في صحف الدولة، فقد كانت الشمس لا تشرق إلا على الجماهيرية، لتنقل لنا أخبار الزحف الأخضر في كل يوم. العناوين التي تنافي الواقع سمة أساسية في صحافتنا، أينما تولي وجهك ثمة (مانشيتات) تنقل لك أخبار الخيمة وصاحبها، تطمئنك على صحته، توثق لك مكالماته مع بقية الزعماء وهو يتوعدهم ويعدهم، بالانعتاق تارة، وبالوحدة تارة أخرى. كانت صحفًا يومية تشرف عليها هيئة الصحافة التي تمثل صوت السلطة، ولا تملك هي ذاتها صوتاً.. كانت صحافتنا خرساء ولا تجيد حتى لغة الإشارة.

ثم حدثت الانفراجة التي سبقت الانفجار، أعني مشروع ليبيا الغد بصحفه وقنواته، كانت محاولة متفائلة تلقفنا مبادراتها بكل حماسة، حتى بدت هي الأخرى وعاء لمعرفة ما تضمره النفوس من استياء وعدم رضا، وبدأت الطريق إلى السجون أسرع في ظل مساحة أوسع من الحريات، ومراقبة أشمل لكل ما يُكتب.. كانت مصيدة ناجحة لتصنيف الصحفيين ومطاردتهم؛ فكلما جر أحد الأقلام الصحفية الحرّة خطّاً، كانت تُجرُّ عشرات الخطوط الأخرى لتنهال عليه بالسب والشتم تارة، وبالدسائس والتقارير تاراتٍ عدّة، لنتيقن بعدها -بكل وضوح- أنه لا وجود لصاحبة الجلالة، بل ثمة صاحب لها، وقد “نصّب نفسه للفجيعة ربّا”.

ثم انقلب الحال كعادته التاريخية، وجاءت الثورة، وجاءت معها الصحافة وبات الجميع يكتب ويصدر حتى أصيبت المطابع نفسها بالتخمة وعسر الهضم من كثرة العناوين، وبدا الوضع أحسن، فقد كنا نكتب بدون رقيب ولا حسيب، وكنّا نتوقع أن ما نقوم به هو الحرية بعينها، حتى اكتشفنا بعد وقت قليل؛ أن الحرية التي منعتها الرقابة، لا تجلبها الفوضى! فلم نكن وقتها نعرف ماذا تعني الرقابة الذاتية، وأخلاقيات المهنة، وكأننا انتقلنا من عصر إلى آخر يليه بسرعة تفوق الضوء وتؤذي العينين.. لم تتح لنا فرصة الفهم أبداً، ولم تكن ثمة فرصة واحدة للانتقال السلمي للأخلاقيات؛ انتقلنا من الترهيب إلى الفجور، من التفريط الى الإفراط، ومن سلطة الفرد إلى سلطة الجماعة التي كانت تمهد لحقبة (ولاية الفقيه).

انتقلنا من حقبة استبداد العسكر إلى استبداد التيارات الدينية سيئة السمعة، التي كانت تضع يدها على كل شيء باسم الدين، وكانت محاولات التنوير وحرية الفكر ما بعد الثورة بمثابة الحديث عن المعارضة تحت رواق الخيمة.. من الأمن الداخلي إلى أمن المواطن، من الحالة الاستبدادية الممنهجة إلى حالة ثورية عمياء لا تبقي ولا تذر. فقد أصبحت السلطة والثروة والسلاح، والصحافة أيضاً –فعليّا- في أيدي مدعي الحالة الثورية، حتى انتهى المطاف بصاحبة الجلالة خارج بلاطها عارية من أخلاقياتها، وأصبحت العديد من الصحف أشبه (ببائعات الهوى) في أيدي التيارات الدينية.

أقول لكم إنه لم تتح لنا فرصة واحدة لقول ما نريد في بيئة صحيّة، لم نظفر بتجربة صادقة حتى بعد الثورة، وهذا ما جعلنا نعاني من ضمور في المعرفة للانتقال من الصحافة الورقية إلى الفضاءات الإلكترونية، التي لم تنتج لنا في نهاية التجربة سوى صفحات التشهير والتشويه والخوض في خصوصيات الناس وأعراضهم وشرفهم، وأصبح الصحفيون يحشرون أنوفهم في بيوت الناس وغرف نومهم.

algazal210607
الصحفي الليبي الراحل ضيف الغزال
يا إلهي.. لا زلنا نريد قول المزيد من الحقيقة، ولكننا نحتاج الوقت والمعرفة وأناسًا حقيقيين؛ لا يشبهون رجال الخيمة، ولا ولدان الأحزاب الدينية، ولا فتيان العسكر "الصقالبة". نحتاج منك أن تستحضر روح (ضيف الغزال) ونحن سنتكفل بالباقي، سنقول ما يجب أن يقال، وندخل بصحفنا بلاط الحقيقة، ونطرد صغار الكتَبة من غرف نوم الناس ومن حياتهم الشخصية.

إرسال التعليق