مغامرة “الفرد” المرتجلة بحثًا عن الحرية
يولَد الإنسان في أراضينا أمةً كاملة؛ هو/هي جزء من عائلة صغيرة وأخرى كبيرة (قبيلة أو عرقًا)، يورَّط في عرفها وعاداتها، ويزرع في رئتيه الصغيرتين دينها وطقوسها.. ثمنًا لحاجاته الغريزية مستقبلًا؛ في اللمة والانتماء، الحماية الاجتماعية، وسقف وبطانية، وثلاث وجبات دافئة.. وأم.
يبدو العقد الاجتماعي الواقعي وغير المعلن هكذا، بشكل مبسط ودون استجلاب مشاعر عاطفية تربط هذا الإنسان بأمته الصغيرة. في غياب تام وجلي لأي علاقة مؤطرة مع شكل ما للدولة.
فما الذي يحدث بعد أن يرفض ذات الإنسان هذا العقد أو أن يخل ببنوده؟ (بعد صفعات النبذ، وفقدانه -بالطبع- جل امتيازات هذا العقد وعطاياه المشروطة).
يُمضي عادة عقودًا من عمره -وربما حياته كلها- في مغامرة مرتجلة وغير واضحة المعالم لاسترداد فردانيته، وفي سبيل تحقيق حرية تنبع من هذه الفردانية.
وهنا يطرؤ سؤال آخر؛ إذا كانت الجماعات تستنبط شكل حريتها أو وجودها -المُرضي لها- من أيدلوجية محلية مركبة ومألوفة، فمن أين سيستنبط إنساننا المتعطش للحرية فردانيته؟
على الورق (على الأقل)، لا توجد إلا فردانية الإنسان الغربي وما أنبتها، ثورته الصناعية، وضرائبه، وقوانينه ووجهة نظره في الوجود الإنساني برمته، وعقده الاجتماعي الذي تعمل جل بنوده اليوم لتنظيم علاقته باقتصادياتها المعقدة.
فهل يذوب إنساننا فيه، ويصبح مبشّرًا مخلصًا بكل منظومته، ويفقد نفسه مرة أخرى؟
واقع الحال، أن تأسيس أي أطر ناضجة للحرية أو الفردانية في حارتنا، يستوجب عملًا مضنيًا، طويلًا ومتراكمًا، وغير مرتبك بشأن ماهيته وفتحات أنفه، وتهويدة جدته وأدعيتها المتطيّرة والسخية للرب والأسياد.. ولن يجلب هكذا فعل مجدًا أو سجادة حمراء، ولا فرصة لجوء أو قبلة في الشارع، ولا تمويلًا سخيًا للتبشير والتثقيف.
والأهم من ذلك، أن لا أحد يود التورط في جهد بهذا الثقل. فقد قعد إنساننا “الحر” على فِراش العزلة مدّعيًا الحكمة الأبدية، مترفّعًا عن كل ما لا يتطابق مع سلّم أوليات صراعه ومتقززًا منه.. مصابًا بالحمى والدوار هذه الأيام، بعد أن ضُرب بفردانية الإنسان الغربي نفسه عرض الحائط، واتخذت القرارات الحتمية الجليّة وفقًا “لمصلحة الجماعة”.. وسط وابل من الإهانات والممارسات الدونية الفجة دون أدنى مواراة أو اعتبار لصراع إنساننا “الخاص للغاية”.
“فردُنا” كذلك ليس مهتمًا بخطّ منهاجٍ أو بناء فكرة متكاملة، ويستثمر طاقة عارمة في دحض حجج صانعي سلام الجماعة، الذين لا يحتاجون -بدورهم- إلى خطّ أي شيء مستحدث، ولديهم ما يكفي لنقله مجددًا حتى نهاية الحياة كلها.
وربما هو ليس بحاجة إلى ذلك، ولا إلى تأطير أي شيء، وأن يجرب -من باب التغيير- التساؤل المستمر والمعلن بشأن تحرر الإنسان ووجوده، والتخلي عن حتمية الرؤى، والاستثمار صدقًا في تحقيق توازن واعٍ بظروف المرحلة التي نعايشها وما أنتجها، والتوقف لوهلة عن حشد العداوات وتستيف ضحاياه في خضم طريقه الطبيعي والأزلي صوب النضج.
وإذا لم يسعف نفسه قريبًا، سيدرج هو الآخر في قائمة “ضحايا التاريخ” العبثية، ليعود وينضم -في سخرية قدرية غير متعمدة- إلى مصير ذات الجماعة التي غادرها.. دون أن يكترث أحد.
إرسال التعليق