ميسون السنوسي حبيب: “عن استباحة الخصوصية في المجتمع الليبي”
يسعى الفرد على الدوام للاهتمام والحرص للمحافظة على خصوصيته داخل محيط أسرته، والعمل على حمايتها من الآخر ونظرته له، وفي ذات السياق نجد الليبي يستبيح انتهاك خصوصية الآخرين فور أن يخطو أول خطوة خارج حدود أسرته.
هنا دعوة للتأمل وإعادة النظر في مفهوم قيمة الخصوصية لدى المجتمع الليبي في الفضاءات العامة.
القبلية في مواجهة الفردانية
إن نشأة المجتمع الليبي قائمة على النمط القبلي، وعمل النظام السياسي في أوائل السبعينات على إعطاء القبيلة دورًا مهما في المجتمع، عبر تعزيزه لمفهوم البداوة وإقصاءه للمدن الحضرية وتهميش دورها.
ولأن القبيلة تبدي اهتمامًا مبالغًا فيه بالفرد المرتبط بها، سواء بالدم أو النسب أو الولاء، فإنها تعمل على مراقبة هذا الفرد والتحكم في تصرفاته لتذوب شخصية الفرد في الدائرة الأوسع؛ وهي القبيلة وأعرافها وتقاليدها التي يتوجب على أبناء القبيلة الانصياع إليها وعدم مخالفتها إطلاقًا.
بالنسبة للكاتب التونسي عادل بالحاج رحومة، فإنّ “المجتمعات التقليدية تغمر كل نزعة فردية للتميز والاستقلالية، وتثقلها بكيانها الجهوي وتقولب الشخص على أعرافها وتقاليدها حتى تعده للدور المنتظر الذي سيلعبه داخل هذا المجتمع التقليدي”.
وعندما نتحدث عن أهمية الفردانية وانعتاق الشخص من هيمنة القبيلة التي تعمل كجهاز مراقبة لكل تحركاته، سنرى بداية التحرر في اتجاه الفردانية وإعلاء الذات الإنسانية التي غالبا ما تكون ذاتًا مجتهدة للعمل والتطوير؛ كونها غير متكئة على مسند القبيلة. “ونزوع الأفراد إلى التحقق كذات لمّا يكون بوسعهم اكتساب القدرة على أن يعرّفوا أنفسهم بأنفسهم، وليس بموجب انتمائهم لهذا الكيان الاجتماعي”.
تعمل القبيلة كالعين المراقبة لما حولها من أحداث متتالية ومتسارعة، وهي تقوم بهذا الدور لحماية أفرادها ورعاية مصالحها. عملية المراقبة هذه لم تكن وليدة اللحظة؛ فقط عمل النظام السابق على تأكيد دور القبيلة، حتى أنه جعل قبيلة ما تراقب القبيلة الأخرى لتعميق الخصومة، ومن ثم عرفنا اللجان الثورية والتي حصلت على موافقة ودعم كبيرين من القبائل الموالية للنظام، وعملت هذه اللجان على مراقبة المواطنين و”تقويم” سلوكهم إذا ما كان مخالفًا لسياسات النظام.
كل هذه العوامل والمسببات جعلت من فكرة الفردانية بعيدة المنال لليبيين، باستثناء بعض المدن الكبيرة التي لا نجد للقبيلة دورًا مهمًا فيها أساسًا.
وعندما ننادي بأهمية الفردانية، لا نعني بذلك تقديس الأنا والمصالح الفردية على مصلحة الجماعة؛ وإنما “في كل منّا كائنان: كائن فردي يعبر عن منظومة الميول إلى الفردانية التي تخص الفرد دون أن يشترك فيها مع الجماعة، وكائن اجتماعي يمثل جميع الحالات والاتجاهات والقيم التي يشترك فيها الفرد مع الجماعة” دوركايم.
الفراغ وعدم الوعي كمرض اجتماعي
أثناء بحثي لكتابة المقال، وحديثي مع -عدد لابأس به من- عامة الناس، اتفقت الغالبية القصوى على أن قلّة الوعي والفراغ هما من الأسباب الرئيسية لانشغال الشخص بالآخر، وعندما نقوم بعملية تحليلية بسيطة لحياة المواطن الليبي البسيط، نجد أن ساعات الفراغ طويلة جدًا، المقاهي مزدحمة بروادها من الشباب ليلاً، والدولة ليست مهتمة بالاستثمار في عقول شبابها، والمستوى التعليمي وجودته متدنية، المراكز الثقافية رفاهية نجدها فقط في المدن الكبرى، بالتالي سيُخلق لدينا مواطن ليبي ينهك عقله الفراغ الذي لا يعرف كيف يستثمر وقته بسبب قلة الوعي، وبالتالي سيتفرغ لغيره ممن حوله “لتقييد أحوالهم” ومعرفة أخبارهم، والتدخل في شؤونهم الخاصة أحيانًا.
ومع قلة الوعي، نجد الكثير من الأفكار المعادية لقيم المجتمع تتسرب وتتأصل في عقول الشباب بالدرجة الأولى، وتصبح هذه القيم الدخيلة في صراع أزلي مع القيم المحلية، وهذا ما يفسره المفكر الفيلسوف المصري فؤاد زكريا “في مثل هذا العصر تعيش القيم المتطلعة إلى الوراء والقيم المتطلعة إلى الأمام جنبًا إلى جنب، ويدور بين هذه وتلك صراع فكري عنيف”.
الجماعات المتطرفة وهدمها للقيم المحلية
تتسرب الأفكار والتوجهات المعادية للقيم المحلية للمجتمعات التي يكون فيها مستوى الوعي الجمعي متدني، بحيث يسهل إقناع الآخر بأفكار وقيم مغايره عن قيم مجتمعه.
قد يعتقد البعض أن التيارات الدينية المتطرفة والأصولية ليس لها قوة حقيقية على أرض الواقع، وأن أفكارها المعادية للكثير من القيم المحلية لا تشكل خطورة على مجتمعنا، ولكن بسبب تعزيز مكانتهم في الدولة، إذ قام نظام القذافي بدعمهم لكونهم يقفون ضد المعارضة ويندمجون في مشاريع “المصالحة” وتبييض صورة النظام، وأصبح لهم طرق شرعية قانونية لتمرير فكرهم في المساجد وحتى في المدارس، واليوم تنتشر مدارسهم في البلاد أكثر من أي وقت سابق.
هذا التمكين حصل إبّان حكم نظام القذافي، وازداد نفوذهم بعد ثورة2011 حيث وصل العديد من ممثلي التيارات المتطرفة للمؤتمر الوطني، وتوّجت صلاحياتهم في التحكم بقيم المجتمع عندما تم إنشاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي كنا نعرفها فقط في السعودية منبع الفكر السلفي، هذه الهيئة التي انطلقت سنة 2016 وحاربت الكثير من عادات الثقافة المحلية باعتبارها بدعة.
وفي السنوات الأخيرة، نرى جليًا ازدياد نفوذهم على أرض الواقع، وتأثيرهم أيضا في فكر الشباب عبر منابر المساجد والدروس الدينية، حيث أن الخطاب الديني هو أكبر مؤثر في مجتمعنا الليبي.
يشير تقرير مجموعة الأزمات حول الشرق الاوسط إلى أنّ “الجماعات المتطرفة تستخدم المؤسسات الدينية للدولة لنشرعقيدتها المحافظة كاستراتيجية لفرض أعراف ثقافية ومجتمعية جديدة”.
وعند حديثنا عن قيمة الخصوصية وما تفرض من احترام للآخر واستقلاليته والاعتراف بحقه في تشكيل قيمه وآراءه، يتناقض كل ذلك مع الجماعات المتطرفة، في كونهم ينكرون الفردانية ويعيشون داخل الجماعة التي يتشاركون معها نفس المعتقدات المتشددة التي ينتمون إليها، ويعملون في ذات الوقت على هدم القيم الثقافية المحلية عبر العديد من الطرق التي أثبتت نجاحها.. “الشاب، عندما يعتنق تيارًا دينيا ما، يتحول من تابع إلى قائد، ومن متلقي إلى مصدر للإلقاء، وهو مراقب لكل أفراد المجتمع وقيمهم.. ويوظف جهله كنوع من السلطة لقهر كل المعارف الأخرى والقيم المحلية التي يصفونها بالبدعة والانحراف”.
الرقابة التي يفرضها الفرد المتطرف على مجتمعه الذي يشعر بعدم الانتماء إليه، تجعله يعمل جاهدًا لخلق مجتمع آخر يشعر فيه بالانتماء ويمارس فيه افكاره بكل حرية، وفي ذات الوقت يعمل مع الجماعة على تطهير المجتمع من القيم المحلية التي لا تتماشى مع فكرهم “يعيش المتطرف في عالميْن متناقضين، عالم الجماعة وعالم المجتمع، مما يوّلد شعورًا بالانتماء و اللا انتماء، وبقدر ما يبتعد عن قيم مجتمعه بقدر ما يقترب من هويته الفرعية”.
كل هذه العوامل والمسببات أجدها تلعب دورًا رئيسيا في تغير قيمة الخصوصية لدى المجتمع الليبي، عندما نبحث عن أهمية هذه القيمة في الخمسينات والستينات القرن الماضي نجدها تمثل أهمية كبيرة لدى الغالبية، ولكن مع حدوث كل هذه المتغيرات تشوهت قيمة الخصوصية لدينا وأصبحنا نمارس أحقية في التدخل في شؤون الغير وننتهك خصوصيته دون اكتراث.
المصــــادر:
- فؤاد زكريا (آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة) -المملكة المتحدة- مؤسسة هنادوي – 2019
- د.نوره عابد (مقاربات فلسفية مفهوم الفردانية في الفكر الفلسفي المعاصر) -وهران- مجلة الفلسفة وتاريخها
- رقاد الجيلالي – أ.د بوعناني ابراهيم (السلفيين بين سلطة الجماعة المرجعية وثقافة التمايز والصراع مع القيم المحلية: دراسة ميدانية لعينة من الشباب السلفي -الجزائر- مجلة المواقف للبحوث والدراسات في المجتمع والتاريخ -2021
- رحومه عادل بالحاج (في تشكل الفرد والفردانية في المجتمع التونسي) -قطر-مجلة عمران للعلوم الاجتماعية المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات -2014
- إبراهيم الحديري (سوسيولوجيا العنف والإرهاب) -دار الساقي- 2015
- معالجة صعود السلفية المدخلية في ليبيا (تقرير الشرق الأوسط رقم200) 2019
- المنصف وناس (الشخصية الليبية) -الدار المتوسطية للنشر- 2014
2 تعليقان