عن فاجعة الصهريج المحترق في «بنت بيّه» الناجون ينقلون التفاصيل
عبد المنعم الجهيمي – خاصّ
الصور حصريّة لـ«دروج»
سقط أكثر من 6 قتلى وأكثر من 50 جريحا صباح الاثنين الأول من أغسطس الجاري، في انفجار صهريج وقود كان قد تعطل بالقرب من قرية «الزويّة» إحدى محلّات بلدية «بنت بيّه» الواقعة على بعد تسعين كيلومتر جنوب غرب مدينة سبها.
الحادثة تعتبر الأولى من نوعها في الجنوب، وتعد فاجعة لكل السكان الذين يعانون أزمات الوقود والغاز منذ سنوات تحت سيطرة السوق السوداء لسنوات عديدة.
كان «مركز سبها الطبي» مكتظّا بالناس وعربات الإسعاف، وللوهلة الأولى لن تفهم حركة الناس والأطقم الطبية ورجال الأمن داخل قسم الحوادث، الذي يستقبل الحالات ويفترض أن يقدم لها الرعاية الصحية الأولية.
وسط ضجيج الناس وصراخ الأمهات تخرج واضحة آنّات الجرحى وآهاتهم، كانت هذه الأصوات تخترق كل ذلك الضجيج لتستقر في آذاننا واضحة ومؤلمة، تراجعت قليلا قبل أن استجمع قواي وأدلف عبر باب الممر إلى الداخل.
كان المنظر مهولا فقد تناثرت الأجساد المحترقة في أرجاء المكان، ومنظر الدماء التي تسيل على أرضية الغرف والممرات وسواد الملابس المحترقة ورائحة اللحم، كل ذلك كان كفيلا بأن يدفعك للخروج أو التخشب دونما أي رد فعل، ولكنني تقدّمت لأدخل أول غرفة على يسار الممر، لمحت أحد الجرحى يتحدث بصوت واضح ولم يبدُ عليه أنه مصاب بدرجة كبيرة كغيره، تقدمت إليه مسلّما، وكأنه يعلم أنني صحفي، ومن حركة عينيه أدركت أنه يريد التحدث معي وإخباري بشيء ما.
اقتربت منه كان ممدّا على السرير والضمادات تغلف رجله اليسرى ويده، بادرني قائلا “أنا الحمدالله خير من غيري ربك نجدني…لكن الناس والله ماتت تحت البوطي”.
لم أكن بحاجة لتصديق حديثه، فبجانبه كانت جثة رجل متفحمة بشكل كبير رغم أن صاحبها لايزال حيا وتخرج آهاته بصعوبة، اقتربت من المتحدث وسألته ما الذي حصل وكيف؟
يقول محمد كنت عائدا إلي المنزل حين لمحتُ جمهرة الناس على الطريق حول صهريج وقود متوقف، وعلمت أنهم يسحبون الوقود منه كلٌّ بطريقته، لم أفكّر كثيرا وبدأت في تعبئة براميلي التي كانت في السيارة.
لاحظت اندفاع الناس -وكنت من بينهم- نحو الصهريج، وكيف تحلّق حوله الجميع، بعضهم جاء بقنّينة وبعضهم ببراميل كبيرة، وبعضهم اعتلى ظهر الصهريج وفتحه وبدأ في التعبئة، مرت ساعات على هذا المنوال، قبل أن يقدم أحدهم على تشغيل بطارية سيارة فوق الصهريج ليتمكن من سحب كمية أكبر من الوقود، ثوانٍ معدودة قبل أن تشتعل النيران بشكل مفاجئ.
كنت خلف الصهريج ولا إراديا اندفعت جريا من دون أن أرى شيئا أمامي، كنت أعدو بكل قوتي رغم أن النيران علقت في بعض جسدي، شعرت بهذه النيران تسحبني للوراء وظللت أقاومها حتى أنهكتْ قواي وسقطتُ بجانب شجرة تبعد أمتارا عن الصهريج.
فقدت الوعي ووجدتُ نفسي داخل «مستشفى بنت بيّه» وحولي الكثير من الناس الباكين والمحترقين والمسعفين، نظرت فوجدت أرجلي قد احترقت، ولكن مازلتُ أشعر بهما. كنتُ في ممر المستشفى الذي اكتظّ بالجرحى، بعض من أعرفهم وجدتهم في حال يُرثى لها من آثار الحريق، وبعضهم فقد وعيه من هول المناظر.
يروي لنا علي التارقي أن أكثر من 15 شخصا كانوا تحت الصهريج عندما انفجر، وأن بعض الناس فرّ من المكان والنار تأكل جسده وفقد حياته على بعد أمتار من مكان الحادث. وبعضهم ظلّ يتأوّه والنار تأكله لساعات قبل أن يتمكن الناس من إسعافه، يقول إنه كان بالقرب من الحدث واصطدم بشجرة مجاورة من هول الانفجار، وعندما استيقظ وجد أشلاء متناثرة من الجثث والجرحى حول الصهريج الذي ظلّت نيرانه إلى ساعات الشروق وهي مشتعلة.
أوضحت الناطقة باسم «مركز سبها الطبي» حليمة الماهري؛ أن المركز استقبل أكثر من 50 حالة من بلدية «بنت بيه» وأكّدت أن الحالات كانت متفاوتة فبعضها في وضع خطير واحتاج لعناية مشدّدة وبعضها متوسط ويحتاج لمتابعة طبية، مؤكدة أن المركز واجه نقصا حادا في العديد الإمكانيات والمعدات. ووُجّه نداءا لكافة العناصر الطبية والطبية المساعدة لتقدم واجبها في إنقاذ الأرواح، وقد كان.
وبحسب الماهري شاركت فرق الهلال الأحمر والكشافة في تقديم الرعاية الصحية الأولية، كما بادرت الهيئة الطبية الدولية بإرسال فريق طبي شارك في أعمال الإسعافات الأولية وتجهيز الجرحى ليتم نقلهم إلى مستشفيات في شمال البلاد.
“الكارثة التي وقعت في «بنت بيه» هي نتيجة طبيعية لقصور الدولة عن توفير الوقود بالسعر المناسب لسكان الجنوب” هذا ما يراه الكاتب محمد أحمد الأنصاري، مضيفا أن الناس وخاصة في القرى تواجه معضلة الوقود على الدوام ولمدة سنوات، وصل فيها سعر اللتر الواحد إلى 4 دينار، بينما كان يفترض أن يكون بخمسة عشر قرشا (0.15) أسوة بباقي ليبيا، وهو ما تسبب في تكالب الناس على الوقود دون أن يضعوا في حسبانهم موضوع السلامة الذي غاب عنهم جميعا.
ويضيف الأنصاري أن الصهريج تعطل بسبب تهالك الطريق، والناس احترقوا بسبب نقص الوقود وغلاء الموجود منه، وفي هذا تتحمل الحكومات الليبية العبء، فقد فشلت جميعها في حل هذه المعضلة وتركت مواطنيها تحت رحمة أرباب السوق السوداء، ولا يستقيم مع هذا الحال أن تتوقع من جميع الناس ان يكونوا بذات التعقل وهم يرون صهريجا متروكا لا صاحب له ولا يدرون مصيره.
نعود إلى «مركز سبها الطبي» حيث تصطفّ سيارات الإسعاف لتنقل الجرحى إلى المطار، زاد الازدحام أمام السيارات من أهالي الجرحى وذويهم، تقول الماهري أن جميع الحالات تم نقلها إلى «مستشفى الحروق بطرابلس» و«مستشفيات بنغازي» لأن سبها والجنوب لا يوجد بها أطباء حروق وتجميل، وهو ملف يجب أن تعمل السلطات على معالجته للتعامل مع الحالات الطارئة كالتي شهدتها البلاد.
اليوم الثالث بعد الأزمة ولا تزال المدينة والجنوب في حالة غليان، فقد أقدم محتجّون على إغلاق الطريق الرئيسي الرابط بين سبها وأوباري، ومنعوا عبور الشاحنات التي تحمل معدات الحقول النفطية، كما أعلنوا أنهم سيصعدون احتجاجهم في حال لم تضعِ الحكومات الليبية حلا لأزمتهم التي يعيشونها لسنوات طويلة، في حال تصاعد هذا الاحتجاج فإنه سيؤثر على عمل الحقول النفطية (حقل الشرارة-حقل الفيل) والتي تنتج أكثر من 200 ألف برميل يوميا.
ومع ذلك، لا تظهر بوادر تبشر بحل قريب وناجع لأزمة الوقود في الجنوب، والتي تحتاج لجدية الحكومات والمجتمعات المحلية في المنطقة، وهو أمر يتعقد مع الوقت ويكاد يصبح مستحيلا مع الفوضى السياسية والانقسام الذي تشهده البلاد على مختلف الأصعدة.
إرسال التعليق