×

اللباس التقليدي الليبي، البحث عن الجذور

Thumbnail Traditional Drooj

اللباس التقليدي الليبي، البحث عن الجذور

مثلما يمكن للنول والمسدة وغيرها من الأدوات, أن تروي الكثير عن الصناعات البدائية والأثر الهائل للمكننة لاحقا، يمكن لأنواع الأقمشة أن تروي أيضا قصتها عن التجارة والعلاقات المحلية والدولية، يمكن لأنواع الألبسة واستخدامها أن تتحدث عن قضايا المجتمع، وعن الطبقية والسلطة، كما يمكن للزخارف والنقوش على الألبسة أن تحكي قصة الفن في بلادنا.

يمكن لهذا كله أن يخبرنا من نحن؟ ويجيب عن كثير من أسئلة الهوية، باختصار.. يمكن لما نرتديه أن يروي قصتنا القديمة، أو يكون مفتاحا لروايتها على الأقل، من هنا تكتسب الأزياء القديمة والتقليدية أهميتهما.

Donna Moresca di Tripoli di Barbaria لنيكولاس دي نيكولاي
لوحة (Donna Moresca di Tripoli di Barbaria) لنيكولاس دي نيكولاي

الرغبة في إكمال الصورة

كان نيكولاس دي نيكولاي جغرافيّا، ورحّالة، ومستشرقا، ومبعوثا سريا للملك الفرنسي هنري الثاني، في مهمته متعددة الأغراض التي أخذته شرقا، قدم دي نيكولاي كتابه الذي عدّ وقتها أحد أهم الأعمال الأوربية عن العالم الإسلامي.

وإضافة إلى مذكّراته التي دوّنها في وصف رحلاته وأحداثها، فقد تضمنت كتبه مجموعة من الرسوم عن الأزياء في البلدان التي زارها، ومما زاد رحلاته شهرة وأهمية: تاريخها المبكر، حيث تعود لمنتصف القرن السادس عشر.

ليبيا واحدة من البلدان التي زارها، وضم كتابه رسما لامرأة ليبية تحمل رضيعها، يبدو الزي الذي ترتديه المرأة مختلفا قليلا عما هو معروف عن الزي الليبي للمرأة في القرون اللاحقة.

وصل دي نيكولاي إلى طرابلس سنة 1551م، نفس السنة التي خرجت فيها المدينة من يد فرسان القديس يوحنا لتقع في قبضة العثمانيين، بأخذ ذلك في الاعتبار.. يمكن أن يمثل الرسم زيا ليبيّا في مرحلة ما قبل توسع التأثير العثماني، لكن.. هل ينبغي قبول هذه الأعمال الفنية كما هي؟

يقول م. عبد المطلب أبوسالم الباحث المراجع التاريخي لمسلسل السرايا الذي تدور أحداثه في الفترة القرمانلية:

“في عملنا، اعتمدنا كثيرا على لوحات بورتريه نادرة رسمت لمبعوثين وسفراء ليبيبين في أوروبا، وهي لوحات ذات تفاصيل دقيقة ومفيدة، ثم على مراجع ودراسات أخرى عن تاريخ الألبسة، تفتقد ليبيا لأرشيف بصري لتلك الفترة، لذا كان علينا العودة أيضا إلى الوصف في النصوص المكتوبة مثل كتاب اليوميات الليبية للفقيه حسن الذي يذكر أنواعا وأسماء لعدة أزياء ومعلومات أخرى تعتبر مفيدة في هذا الباب، ولكن يظل التعامل مع النص المجرد صعبا بعكس الأعمال الفنية البصرية.”

عن الدراسات
نماذج عن الدراسات

الحاجة لعمل مؤسسي

يرى د. نزار الحراري، مخرج مسلسل “السيرة العامرية” الذي تدور أحداثه في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أن غياب مؤسسة وطنية معنية باللباس التراثي يصعب مهمة صانعي السينما والدراما:

“في دول أخرى حول العالم -على سبيل المثال جارتنا تونس- يوجد مؤسسات بها نماذج عرض عن الأزياء التراثية عبر المراحل الزمنية المختلفة، وهو أمر نفتقده في ليبيا، حتى المراجع المكتوبة –رغم أهميتها- تعتبر قليلة العدد ولا تغطي كامل التوزيع الجغرافي في ليبيا، لذا كان علينا الاجتهاد بشكل فردي والاستعانة بالخبراء والمهتمين بالتراث والأزياء التقليدية”.

لا يوجد في ليبيا متحف وطني خاص بالأنثروبولوجيا “علم الإنسان” من شأنه تقديم صورة واضحة عن الأدوات والمقتنيات والأزياء وتطور حياة الإنسان في ليبيا عبر الزمن. الأقسام القليلة داخل المتاحف والتي تعنى بالمقتنيات التقليدية جلها ذات محتوى ضعيف ومكرر ولا تغطي الثراء والتنوع في ليبيا جغرافيا وزمنيا وثقافيا، يتركز أغلب الاهتمام المتحفي الضعيف أصلا في ليبيا على الآثار وخاصة الكلاسيكية منها، وهذا جانب شديد الأهمية لكنه ينبغي أن لا يحجب غيره.

ينطبق الحال نفسه على الدراسات والكتب عن تاريخ اللباس في ليبيا، قليلة هي المبادرات المؤسسية لتوثيق ودراسة هذا الحقل، لذا فأغلب العمل سابقا وما يزال كذلك معتمد على الجهد الفردي الذي ينبغي تشجيعه سواء فيما يتعلق بالتأليف أو ترجمة ما كتب بلغات أخرى.

يقول نزار الحراري: “مراجع مثل كتاب الأستاذ سالم شلابي (ألبسة على مشجب التراث) مفيدة للغاية، لكنها تظل قليلة ولا تغطي جغرافيا كافة المناطق التي تدور أحداث المسلسل فيها، والصور في مثل هذه الكتب غالبا غير ملونة، بالنسبة لي أردت أن أكون دقيقا جدا في تجسيد المشاهد التاريخية والعناية بتفاصيلها، فثمة اختلاف في اللباس بين الماضي والحاضر يمكن أن يصنّف بسيطا إلى متوسط في الأزياء الرجالية، واختلافا يمكن اعتباره كبيرا في أزياء النساء”

تصميمات زمني جديد
من تصميمات مشروع: زمني جديد

قضية التجديد والتغيير

تدير مصممة الأزياء نجوى الشكري مشروع “زمني جديد“، الذي يقدم أزياء نسائية تجمع بين التراثي والمعاصر، تقول نجوى:

“رغم فخامة الزي التقليدي الليبي الذي أحبه كثيرا، إلا أنه يندثر يوما بعد يوم، حتى في الأعراس والمناسبات بدأت الأزياء الخليجية والهندية وغيرها تنتشر بين النساء وتحل محله، كان هذا سببا في إطلاق شركة زمني جديد، حيث قمت بتصميم موديلات عملية بتفاصيل من الزي التقليدي“.

تطرح هذه الفكرة قضية جدلية بين الناس والمهتمين بالتراث خاصة، بين من يرى أن الأزياء التقليدية بهيأتها الأصيلة كانت مناسبة لنمط حياة معين، ولكي تبقى حية لا بد من تطويرها وإدخال بعض التعديلات التي تجعلها عملية ومناسبة أكثر لنمط الحياة الحديث أسوة بتجارب مماثلة، وبين من يعتقد بضرورة الحفاظ على الشكل والتفاصيل الأصلية للزي التقليدي الليبي بدقة.

بنظر آخرين، يمكن أن يكون هذان الخطان متوازيين، بحيث يتحقق الحفاظ قدر الإمكان على الصورة الدقيقة للباس التقليدي الأصلي بكل تنوعه بين الحرفيين وأهل الصنعة، ويفتح المجال أيضا للمشاريع التي ترغب في إنتاج ألبسة عصرية مستوحاة من هذا التراث ولا تلتزم بتفاصيله.

التطور والتغيير سنة الحياة” تقول نجوى، وتكمل: “مهمتنا هي الحفاظ على هويتنا وإرثنا، والتعريف به حول العالم عبر اللباس، هذا التطور ضروري جدا للمحافظة على استمرار توارث الزي التقليدي الليبي”.

على الرغم من تخوفها في البداية، إلا أن الناس تلقت مبادرتها بإقبال وتشجيع كبير “الجميع يبجث عن الهوية والانتماء، عن شيء يمثلهم، ويعبرون عن احتياجهم لهذا الامر الذي يفتقدونه” بحسب تعبيرها.

يمكن ملاحظة التغير في اللباس بصورة واضحة حتى على المدى المتوسط وفي غالبية المناطق، يقول السيد امراجع توكا: “لا يرتدي كبار السن زي أراقا إلا بلونه الأصلي: الأبيض، بينما نرى الجيل الجديد من الشباب يرتدي اللباس نفسه ولكن بألوان أخرى، هذا التغيير واضح ويبدو أن المجتمع يتقبله”

by. Abel Kavanagh
By. Abel Kavanagh

المحدودية والتنوع

ثمة قضية أخرى تطرح عند الحديث عن الزي التقليدي الليبي خصوصا عندما يتعلق الأمر بالمؤسسات الرسمية أو الفعاليات الوطنية، تحصر أحيانا فكرة الزي التقليدي في لباس مناطق بعينها، بينما يوجد تنوّع هائل في الألبسة فزي الرجل في غدامس مختلف عنه في طرابلس، وما تلبسه نساء غات قد يغاير ما ترتديه النساء في بنغازي، وهكذا.

امراجع توكا هو ناشط من مدينة الكفرة ومهتم بالتراث التباوي، يعتقد أن المناسبات الوطنية المتعلقة باللباس ينبغي أن تكون أكثر حرصا على إبراز التنوع، ولكنه يلاحظ إشارات إيجابية في هذا الجانب خاصة على المستوى الشعبي، يقول امراجع:

” في السابق كانت المعاناة أكبر في مسألة تقبل اللباس والثقافة الخاصة بنا كجزء من التراث الليبي، ولكن في السنوات القليلة الماضية هناك الكثير من التحسن فيما يتعلق بالتقبل والاحتفاء بالثقافة التباوية ولباسها بين الليبيين، نرى مبادرات جيدة لإبراز التنوع الثقافي”.

وبعيدا عن القصور الذي قد يطالها، تظل هذه المبادرات المجتمعية في الاحتفال والاحتفاء بالزي التقليدي في ليبيا نقطة إيجابية يمكن تطويرها والبناء عليها.

تعليق واحد

comments user
متصفح

ممتاز

إرسال التعليق