×

الحوار المثمر

fruitful dialogue

الحوار المثمر

بقلم / عمر أبو القاسم الككلي

بعيدا عن ادّعاء العبقرية والنبوغ المبكر (وفي نفس الوقت: بعيدا عن التواضع الزائف، أو ما أسمّيه: التواضع النفاقي) وجدت نفسي، منذ فترة مبكرة من حياتي (منذ المرحلة الإعدادية) أنجذب إلى الحوار والنقاش والجدال.

بطبيعة الحال، كنت في البداية أتحمس في النقاش فيعلو صوتي، لكنني لم أكن أتعدّى بالعنف اللفظي المستفز للآخر أو السخرية منه، وإنما كنت أحاول أن أفيد وأستفيد.

ومع مرور السنوات، درّبتُ نفسي على كبح جماح الحماس والتمسك بالرصانة في النقاش، إلى جانب توخي الوضوح، قدر ما تسمح به ظروف النقاش المرتجل، بحيث لا أترك ذريعة لمناقشي (إذا كان جادا ومنصتا مخلصا) للحيد عن مقصد كلامي وأفكاري.

أي أنني صرتُ (حسب تصوري عن نفسي) مراعيا لآداب الحوار ومتمسكا بها بشدة. وأصبحتُ عندما يلجا محاوري، عمدا، إلى إساءة فهمي وإدخال الحوار في شعاب ومتاهات أخرى؛ أعلن احتجاجي وتوقفي عن المضي في الخوض في جدال لا ترجى من ورائه فائدة لأيٍ منا.

وعندما انخرطتُ، في فترة متأخّرة، في كتابة المقالات بشكل منتظم، تقصدت التمسك بمباديء الحوار على نحو أشد حزما، وبالوضوح بشكل أكثر تمعنا. ونسبة معتبرة من مقالاتي الكثيرة على مدى ما يربو على تسع سنوات، تمثل ردودا على مقالات كتاب آخرين وجدالات معها ومعهم.

ولا أبوح بسر حين أقول إنني أجد في نفسي قدرا كبيرا من الاستحسان حين أرد على أصدقائي الكتاب الذين أقف معهم على أرضية مبدئية وفكرية واحدة، تقريبا. لأنني بهذا أثبت لنفسي، ولمن أحاوره، وللقاريء المتتبع، تمسكي بالموضوعية والبعد عن المجاملة، وأن هذه العملية جدية تماما وليست مجانية.

وأنا أعتبر أن النقاش والجدال الفكري، شفهيا كان أو مكتوبا، يمثل تدريبا عقليا ينمي القدرة على التفكير المركز السريع وينمي إمكانية السيطرة على اللغة لتحقيق الدقة والوضوح في التعبير. إنه يشبه في ذلك (والقياس طبعا مع الفارق، وحتى في النتائج أحيانا) خوض المعارك بالنسبة إلى المقاتلين، سواء في الحروب القديمة التي سلاحها السيوف والرماح، أو الحروب الحديثة التي سلاحها المسدسات والبنادق.

فالمقاتل بالسيف والرمح قد يستفيد (إن بقي على قيد الحياة) من مقارِعِه حيلا وفنونا جديدة يطور بها قدراته القتالية. كذلك هو الأمر في النقاش والجدال حيث يمكن للمرء الاستفادة من المهارات الجدالية والجوانب المعرفية التي يظهرها خصمه في تطوير قدراته هو نفسه.

كما أن الجدال، عفويا مرتجلا كان أو مكتوبا، كثيرا ما يكشف عن خلل وقصور في الرؤية الفكرية الناظمة لتفكير المجادل والأرضية الفلسفية التي يتحرك عليها. وعليه، فإن ما يطور فكر الواحد منا ورؤيته العامة هو الاختلاف مع الآخر، ضاق أو اتسع، وليس الاتفاق التام معه. وبطبيعة الحال، فإن الجدال قد يؤدي إلى التقارب في الآراء، كما يمكن أن يؤدي إلى مزيد من التباعد بينها.

أحب، في هذا السياق، أن أوضح نقطة أراها بالغة الأهمية في تصوري للحوارات والجدالات التي أدخل فيها، وهي أنه ليس منطلقي الأساس في ذلك إقناع محاوري أو مجادلي، بقدر ما هو إيضاح فكرتي بأجلى قدر تمكنني منه قدراتي العقلية والمعرفية، للحيلولة دون أن أفهم خطأ، وأوطّن نفسي، في الوقت ذاته، على فهم رأي الآخر وتفهمه مثلما يفكر هو. ذلك أن عملية الاقتناع شديدة التعقيد، وكثيرا لا تتشكّل على نحو فوري، وإنما تأخذ مراحل من التفاعلات والتقلبات الباطنة في نفس الشخص وعقله قد تستمر سنوات!.

وجود حوارات وجدالات معلنة عبر وسائل الإعلام مرتبط بمدى مساحة حرية المعتقد وحرية الرأي في المجتمع المعين. ومصادرة حرية المعتقد وحرية الرأي لا تأتي من قبل الأنظمة الدكتاتورية والطغيانية، فقط، لكنها تصدر، بشكل أساسي، من المجتمع. والدليل على ذلك ما نشهده في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من قضايا يرفعها البعض ضد أعمال بعض المفكرين والأدباء والفنانين بدعوى مساسها بثوابت المجتمع وقيمه الأخلاقية والدينية.

لقد رددت على عدة كتاب (ليس من ضمنهم كاتبات). بعضهم لم يرد عليَّ، والعدد النادر منهم تولى الرد. والذين رددت على عدة مقالات لهم، وقاموا هم، بدورهم، بالرد علي ما وجهته إلى مقالاتهم (ولا أقول: وجهته إليهم) من نقد صديقان عزيزان جدا.

الصديق العزيز الشاعر والروائي والكاتب سالم العوكلي، والصديق العزيز القانوني والمهتم بالفكر الإسلامي محمد خليفة. أنا وسالم ينتظمنا إطار فكري عام لا يمنع الاختلاف الجلي في بعض المسائل. وهنا أود أن أورد نادرة بخصوص الاختلافات بين المنضوين ضمن إطار فكري واحد. يُروَى أن أحد أهم مفكري المعتزلة (عذرا على نسياني الأسماء) قال عن مفكر معتزلي هام آخر: ليس بيني وبين (فلان) خلاف، سوى في أربعين مسألة!. أما بالنسبة إليَّ ومحمد خليفة فإن إطارينا الفكريين متباعدان تماما. ولقد كان الحوار بيني وبينهما راقيا رقيا بالغا.

تعليق واحد

comments user
Amanda Rodas

Excelente artículo. Estoy de acuerdo con el autor. Es importante reconocer el valor de uno y la validez de lo que creemos y pensamos.

إرسال التعليق