الثالوث الليبي
بقلم / منصور بوشناف
ارتبط الليبيّون بالرقم ثلاثة على نحو لافت، ولعل اسم عاصمتهم اللاتيني “تريبولس” أو “طرابلس” العلامة الأهم والأبرز لذلك التاريخ الثلاثيّ الأبعاد، فهو يعني “المدن الثلاث.
وقد أطلقه الأوروبيون على “لبدة وصبراتة وأويا”, ليشير بعد ذلك إلى إقليم “التريبوليتانيا” أو الإقليم الطرابلسي أو الإقليم الثلاثي؛ ليكون في العصر الحديث الاسم المناسب لعاصمة الأقاليم الثلاثة “فزان وبرقة وطرابلس”.
الليبيون، ومنذ بدايات عصرهم الحجري الحديث –الذي لم يغادروه أسوة بإخوتهم العرب والمسلمين حتى الآن– شكّلوا ومنذ آلاف السنين أيقونتهم المثلثة في “حويته وخميسة وقرين” وهي علامات تلخص ثقافات ليبية سادت منذ العصر الحجري الحديث وحتى الآن.
حويتة وخميسة وقرين
فالحويتة “تصغير للحوتة أو السمكة” مثّلت أيقونة لسكان الساحل المنفتحين على البحر وحضارات شواطِئه الأخرى، وكانت ترمز للخلود وترسم على قبور الموتى وفي ذلك يبرز الأثر الروماني الحضاري.
أما “الخميسة” فهي أيقونة صحراوية خالصة، وقد قدّسها “الجرمنت” سكان مملكة “الترانزت” أو تجارة العبور في الجنوب الليبي، حيث ما تزال عاصمتهم “جرمة” وأهراماتهم العشرون باقية إلى الآن.
وقد كان الجرمنت ينصبون “خميسة” من حجر كشواهد لقبور موتاهم قبل أن يبنوا الأهرامات كشواهد كبيرة لتلك القبور ولتخليد أولئك الموتى.
أما “القرين” وهي تصغير “للقرن” فقد كان أيقونة لثقافة سكان تخوم الصحراء أو “الوسط” وهي مناطق شاسعة تمتد بين البحر والصحراء جغرافيّا، وبين الحويتة والخميسة ثقافيا.
وقد تشكلت هذه الثقافة كأحزمة ثقافية للصحراء ضد البحر وللبحر ضد الصحراء وظلت وترا مشدودا بينهما، تدافع عن البحر ضد الصحراء أحيانا، وأخرى ضد البحر عن الصحراء. كانت تمتد في الوسط من غدامس غربا وحتى سيوة شرقا، مرورا بزويلة وحتى بابها بالقاهرة، وتعتبر بني وليد متحف فنها الذي تتناثر آثاره عبر شعابها ووديانها إلى جانب أوجله وسيوة.
“القرين” هو أيقونة المعبود الليبي قرزيل وثوره المتوتر وهو أيضا أيقونة المعبود الليبي “آمون” وكبشه الوادع المطمئن.
قرزة تروّض التاريخ
آثار قرزيل تظهر في “قرزة” ببني وليد، وظل سكان بني وليد يفاخرون بترويض الثيران وترقيصها حتى وقت قريب، ويسمون أحيانا “رقاصة الثور” وهو ميراث من طقوس الاحتفاء والتقديس لقرزيل وثيرانه المتوترة في العهد القديم.
تماثيل وأيقونات قرزيل وثيرانه يحتفظ متحف بني وليد ببعضها -إن لم تدمر أو تسرق في السنوات الأخيرة- أما آمون فتظهر معابده بترهونة وزاوية المحجوب بمصراته وأوجلة ثم سيوة.
إذا كان ثالوث المدن “طرابلس” قد جاء من وراء البحر فإن ثالوث “الحويتة والخميسة والقرين” كان محليا خالصا، ولذا ما زال مفعول أيقوناته مؤثرا في الوجدان الليبي وفي الأوهام الليبية أيضا منذ نهايات العصر المطير وحتى الآن، فما زالت الليبيات يعلقن تلك الأيقونات في رقابهن وفي بيوتهن طردا للحسد وطلبا للحظ والحماية.
كان الليبيون، ورغم شتاتهم الجغرافي، يوحدون ذلك الثالوث الخالد في واحد، فطرابلس ورغم دلالتها الثلاثية ظلت رمزا لوحدتهم، وظلت بيوتهم وأعناق نسائهم وأطفالهم تحضن “الخميسة والحويته والقرين” أيقونات الحظ وطرد الحسد وطلب الحماية والتحصين معا,، فمن النادر ألا تجدها متجاورة ومشدودة بخيط، ومعلقة ككيان رمزي واحد.
في العهد القره مانلي، أخذ هذا التنوع شكله الحديث الموحّد. صار خيط تلك الأيقونات الثلاثية الأبعاد مشروع كيان على الأرض، مشروع أرض وشعب وحكومة تحاول كسب الاعتراف الشكلي بها، فموضوعيا كانت بالفعل موجودة.
لم تنله بالطبع رغم مغامرات يوسف القره مانلي، ورغم أشعار سيدي قنانة. فقد انقطع الخيط اللاظم لتلك الأيقونات تحت ضربات أساطيل أوروبا ومؤامرات باب تركيا العالي وشهوة وصراع القره مانللين الأشقاء على السلطة؛ لتظل منظومة بخيط التبعية حتى خمسينات القرن العشرين.
أيقونات متناثرة
مشروع الاستقلال أقر الثالوث وأعاد لظمه في خيط واحد أسماه العالم الحديث ليبيا، واعتقدنا أن الخيط متين، بل أن الأيقونات انصهرت في بعضها وما عاد بالإمكان تمييزها؛ ولكننا الآن نرى الأيقونات متناثرة، وعشرات الخيوط تُمد للظمها على نحو لا أحد يعرف كيف يكون.
- هل عواصم ثلاث أم “طرابلس”؟
- هل أقاليم ثلات أم ليبيا؟
- هل”حويتة” تسبح أحلامها بعيدا في البحر، “قرين” يتحصن متوجسا من البحر والصحراء، و”خميسة” تنزوي في متاهات الرمل؟
نحن الثلاثة خبرنا هذا التشظي والتناثر، وأخذ تشظينا أشكالا عدة أنتجت دائما حروبا واصطفافات قبلية وغزوات باتجاه الوسط والجنوب لإخضاعه لمركز بحري، ظل يعمل جابي ضرائب للمحتل، وظللنا رغم كل الكبوات ننهض ونعيد لظم أيقونات وحدتنا بخيط الوطن الواحد.
الليبيون يتشظون اليوم مدنا منتصرة وأخرى مهزومة، فجرا وكرامة، مهجرين ونازحين، ومتربصين متوترين، وجميعهم يعانون هذا التشظي، فأي خيط يمكن أن يعيد لظم أيقونات ليبيا المتناحرة ويوقف غزواتنا المتتالية ضد بعضنا البعض ، ويدشن ليبيا وطنا واحدا متنوعا؟
إرسال التعليق