الشتاوات وسيلة للتعبير
بقلم / خديجة رفيدة
“أوّل ما تبدّينا …. على محمد صلّينا”
تفتتح النساء ابتهاجها في المناسبات السعيدة، عادة بهذه الأهزوجة، صلاة على الرسول الأكرم؛ وإشعار بأن الغناء ابتدأ فعليا.
تردّد النسوة وراء القائدات الجالسات في الصفوف الأمامية، وتمرر الراغبة في المشاركة الشتّاوة إلى من تتقدّمها؛ كي تمررها هي أيضا، أو تقف لتلفت انتباه الحاضرات إليها وإلى ما تود قوله، وحين تعاد الشتاوة ثلاث مرات أو أربع تقال شتاوة أخرى.
يصاحب الشتاوة دقّ على الدرابيك، وأحيانا الطبول، وبإيقاع متناسق تغنّي النسوة وكأنهن فرقة تم تدريبها لفترة طويلة، إلا أن ذلك يتم هكذا، بعفوية واندماج.
في الأعراس؛ بإمكانك أن تعرف قصة حياة العريس أو العروس بمجرد سماعك للشتاوة، كذلك إن دخلتْ إحدى النساء لحلقة الرقص؛ ستعرف الجالسة، التي ترى الراقصة لأول مرة في حياتها، صلة قرابتها بأهل العرس، وحالتها الاجتماعية؛ إن كانت أمّا أم لا؛ وتفاصيل أخرى عديدة.
أيضا تكترث النساء الليبيات كثيرا بأمر الدعاء، ولا يُنسى فضله بالنسبة لهن حتى في أوقات الفرح، فيجد المنصت الكثير من الشتاوات عبارة عن دعاء، دعاء بالهناء؛ دعاء بالذرية الصالحة؛ ودعاء بتسخير كل ما هو معطل.
تقول السيدة زينب (53 سنة) إنها تجد في الأعراس فرصة ليعرف الناس كم هي سعيدة ومتباهية بزوجها وأبنائها:
“لا إراديا؛ في كل عرس أكون حاضرة فيه أجد نفسي أغنّي لزوجي وأبنائي؛ وأقول: “اللي نبي ديما نلقاه .. يا سلم الشايب وضناه”، ثم أرفقه بدعوة: “الحوش اللي مليان صقورة .. إن شالله ما نبكي في سوره”، ولا أنسى ابنتي الوحيدة: “يا سلّمها وينجّيها .. ما زهوة حوشي إلا بيها””.
يتطوّر الأمر أحيانا لتكون مساجلة بين فريقين، يقول الفريق الأول شيئا ما؛ يرد عليه الثاني، وهكذا.
السيدة ابتسام (29 سنة) متزوّجة ولديها 3 بنات، تقول إنها كلما همّت بالرقص في عرس تتردد بسبب شيء واحد فقط، هي تذكيرها بأن ذريتها دون أولاد، رغم أنها مكتفية ببناتها إلا أن هذا التذكير يزعجها:
“كل ما رقصت مرة قالت النسوة على لساني “إن شالله نجيب ولد من الغالي .. بيش نتم عقاب دلالي” لكنني أرد عليهن: ” توحد قول الله واحد .. مدللني من غير ولد” كي تسكت هذه الأصوات”.
تشعر المرأة بحاجتها للتباهي بأبنائها وآل بيتها، وتجد في المناسبات السعيدة فرصة لذلك، فالمناسبات تمثل الحياة الاجتماعية لها في الأيام، تقول الأخصائية النفسية سارة الحداد أن السيدة تحب أن يعرف الحاضرون جميعا أن لديها دستة من الأبناء، وأنهم متعلمون؛ وبارّون بها، وأنها تحبهم جدا، كما تحب الأم في مجلس الأمهات في المدرسة أن يعرف البقية أن ابنها تلميذ نجيب وذكي، ويدخل الأمر أحيانا في المبالغة، لكنها الأفراح هكذا، أغلب الأشياء فيها مبالغة.
لا يقتصر أمر الشتاوات وما تحتويه من دعاء وتباهٍ على الأعراس فقط، بل حتى في الأيام العادية؛ تجد أحيانا بعض النسوة – خصوصا العجائز منهن – يُعبّرن عن حالتهن وحالهن بالشتاوات، ويرحبن بالقادم إليهن، وحتى شكواهن تكون بالشتّاوة.
لا تنسى النساء أيضا في أوقات فرحتهن حال البلاد وأبنائها، فتغني الواحدة منهن لانتهاء الحرب وراحة المرابطين في الجبهات، ويتذكرن من فقدن من أبنائهن ومن أصيب ومن فُقد، وتجد الواحدة منهن فرصة لتذكير نفسهن وغيرهن بجراحهن من دن بكاء، بل بالغناء وحده: “إن شالله يقولوا الحرب كمل .. الغالي في حوشه يقيّل“.
سألتُ جارتنا – الحاجة افطيمة – رحمها الله قبل سنوات مرة: لكل حدث ولكل شخص عندك شتاوة؛ فكيف ذلك؟” فأجابتني: ” نطلّع اللي في قلبي ديما“.
خالتي الحاجة افطيمة؛ حتى في زياراتنا العادية لها في بيتها وحين تُسعد بالذين زاروها تصفق لهم بيدين مجعدتين وتقول: “مرحبتين بهالّلي جاني .. إن شالله لا يمرض لا يعاني” وإن كان غير متزوج تزيده: “مرحبتين بناير زوله .. ان شالله عرس نديروله”.
كذلك الجدة رقية؛ تغني لأحفادها وتلاعبهم وتراقصهم بالشتاوة، “ما اسمح زولها .. ربي يصونها”، وتعزو الحداد هذا الأمر لحاجة البشر غالبا للتعبير عمّا بداخلهم، وهذه هي الطريقة التي تُمثّل العجائز أحسن تمثيل.
تعتبر الشتاوات أو كما تسميها بعض جداتنا “ربّاجات” موروثا ثقافيا متداولا ومتناقلا من زمن بعيد، ووسيلة للتعبير عن ما يدور بخُلد المرأة مثلها مثل الشعر والقصة، تقول السيدة خيرية (50 سنة) إن لها في الأفراح مساحة تعبر فيها دون خجل عن ما تريد، ففي أول مناسبة بعد صُلحها مع بيت عمها بعد قطيعة طويلة غنّت: “ربي من فوق شبح فينا .. اشّرتعنا وتالي التمّينا”.
وللنساء القادرات على ارتجال الشتاوات خلال المناسبة أو حتى بعد حدوث موقف ما حظوة في عالم النساء، تجد البقية في المناسبات تناديهن للجلوس في الصف الأمامي، فالصف الأمامي للقادة غالبا، وتصف الحداد النساء القادرات على ارتجال الشتاوات: بسريعات البديهة والفطنات.
تقول السيدة خيرية إنها في المناسبات التي تكون فيها جارتها عائشة حاضرة تحب أن تجلس بجانبها، تخبرها بشيء ما عن المرأة التي تتوسط حلقة الرقص، فترتجل الأولى شتاوة عنها، أو تحكي لها عن أصحاب المناسبة إن كانت على دراية بهم أكثر منها، كي يعرف كل الحاضرون عن كرم أبيهم وحنان أمهم وحسن أخلاق أبنائهم وبناتهم، وتقول أيضا: إن في ذلك متعة لا يعرفها الذين لا يحبون هذا الفن.
“يا سلملي ارهومة وبوه ..اللي نقول عليه يجيبوه” هكذا استقبلت الحاجة رقية حفيدها وابنها بعد ما تحدثت أمامهما عن شيء ما تريده، فأحضراه لها، بارتجال سريع وفرحة لا تخفى ودعوة لا ترد.
تبقى حاجة الإنسان للتعبير عمّا في داخلهم من مشاعر حتى فنائه، ويبقى الاختلاف بين إنسان وآخر وسيلة كل منهم للتعبير عن هذه المشاعر، وبهذا؛ ستبقى الشتاوات الأمثل من بين كل الوسائل لبعض النساء، وسيفتتحن بكل مرة “أول ما تبدينا .. على محمد صلينا”.
تعليق واحد