×

صفية العايش: “كيف أدى الفساد إلى موت الآلاف؟”

WhatsApp Image 2023 09 23 at 14.41.55

صفية العايش: “كيف أدى الفساد إلى موت الآلاف؟”

قبل أيام من انهيار السدود بمدينة درنة، وقبل أن تصل أعداد الضحايا إلى الآلاف، يوم السادس من سبتمبر قام الشاعر مصطفى الطرابلسي بالمشاركة في ندوة تختص بـ“إهمال السدود”، وأقيمت هذه الندوة ضمن جمعية بيت درنة الثقافي، وكانت الندوة تركز بشكل كامل على تبعات الإهمال الحكومي لوادي درنة وسدوده التي تنذر بمخاطر الانهيارات وفيضان المياه الذي سيجرف كل شيء. مات الشاعر مصطفى الطرابلسي ووجدت جثته بعد ذلك ضمن آلاف الجثث الأخرى التي جرفها الوادي، حيث يروي الناجون أن مدينة درنة انقسمت إلى نصفين: نصف غربي ونصف شرقي، حيث تبع سيل الوادي مجراه الطبيعي قاطعا طريقه باتجاه البحر بعد أن دمر ضغط الماء سد وادي درنة جارفا معه العديد من المباني.. ذات السد الذي ظل يحمي المدينة لعقود طويلة رفقة سد آخر.

يقول الناس: “إن درنة لم تعد موجودة”. بينما يقول آخرون إن الكارثة التي اجتاحت منطقة الجبل الأخضر ستغير الكثير من معالمه وتركيبته السكانية، فالضحايا بالآلاف، وقرًى كاملة امّحت (الوردية وقندولة) وأصبح وجودها من الماضي بسبب الأمطار وفيضانات الوديان التي ترتكز حولها.

ما بعد الكارثة

أعلن رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، مساء يوم الإثنين الحادي عشر من سبتمبر الحداد لمدة ثلاثة أيام على أرواح المواطنين الذين قضوا نحبهم جراء الأحداث المأساوية التي اجتاحت مدنا وقرى بمنطقة الجبل الأخضر، وكانت الفيضانات قد خلفت ما يقارب 3800 قتيل وآلافاً من المفقودين جُلُّهم من مدينة درنة وفق الإحصائيات الرسمية، التي صرح بها رئيس وزراء الحكومة الموازية “أسامة حماد” الذي تم تعيينه من قبل البرلمان قبل أشهر. وتشهد ليبيا حالة من الانقسام السياسي تسببت في وجود حكومتين وأجسام عسكرية تتصارع فيما بينما منذ سنوات، مما يعيق جهود الاستقرار ويضاعف من مشكلة الفساد الإداري والمالي، وهو ما جعل الليبيين على مواقع التواصل الاجتماعي يطالبون بتحقيق دولي مستقل في الأحداث الجارية بسبب عدم ثقتهم في جميع الأجسام السياسية التي تحكم البلاد.

يقول إبراهيم (24 عاما) أحد سكان منطقة (شيحة الشرقية – درنة): “إن المطر تجمع في مناطق البلاد وسط درنة، وأن شيحة الشرقية كمنطقة مرتفعة عن مجرى الوادي استطاعت الصمود رغم تضرر القليل من المباني”، ويضيف: “حجم الدمار داخل المدينة يحتاج إلى سنوات من العمل، كما أن المدينة رغم تخصيص ميزانية لإعادة إعمارها وإنشاء صندوق مخصص رُصد له ما يصل إلى 400 مليون دينار، إلا أن مئات الملايين تم سرقتها من قبل المسؤولين في المدينة، كما أن السدود بقت متهالكة ولم تتم صيانتها”. وكانت مياه الفيضان قد ابتلعت أحياءً بكاملها؛ كأحياء المغار وحي الصحابة ومنطقة البلاد التي تعتبر قلب المدينة بعد أن تدمر ما يصل إلى ثلث المدينة بسبب الفيضان، ويقول إبراهيم: “كيف أستطيع الآن أن أعيش في مدينة لم يعد بها أي مقوم من مقومات الحياة الطبيعية؟ شبكة الصرف الصحي انهارت والطرق تهدمت” ويضيف: “المدينة الآن من دون سدود، وإن أتى الشتاء فسيغرق كل شيء”.

der
derna
Reuters

فيضانات متكررة

تملك ليبيا تاريخا طويلا من الفيضانات أغلبها يتمركز في إقليم برقة شرق البلاد بسبب طبيعتها كمنطقة مليئة بالوديان، ورغم أن الروايات الشفهية تنقل قصصا مأساوية عن تلك الفيضانات المروعة إلا أن أحداث سد وادي درنة هي الأعنف على الإطلاق، فمدينة درنة بسبب طبيعتها كمدينة تم بناؤها على فوهة الوادي ومناطق مصباته هو ما جعلها معرضة للخطر بشكل دائم، ويقول عبد المنعم سعد محاضر بجامعة بنغازي بقسم العلوم البيئية: “إن المعضلة الأبدية لدرنة تكمنُ في طبيعة الوادي الذي يتبع دائما مجراه الطبيعي”، ويضيف: “كانت دلتا الوادي في السابق مزارع كبيرة للخضراوات والفواكه والأشجار، فهذه المنطقة كانت بفضل الغطاء النباتي مؤهلة لامتصاص قوة وتأثير الفيضان قبل أن يتم تحويلها إلى منشآت ومبانٍ”، فقد جرف هذا الوادي عام 1941م دبابات الجيش الألماني إبان الحرب العالمية الثانية، غير أن بناء السدود بعد ذلك بعقود خفف كثيرا من شدة تأثير الفيضانات وجعل الناس ينسون الطبيعة الجغرافية للمكان الذي يسكنونه.

1956

ويقول بلقاسم المحجوب المهندس والحاصل على ماجستير في إدارة الموارد المائية الذي زار سد وادي درنة بشهر يوليو الماضي: “كان يتم النظر دائما إلى شح المياه كمشكلة رئيسية ووحيدة تترتب على تغيرات المناخ، ولكنني كنت أرى أن مشكلة ليبيا هي الفيضانات التي كانت تقتل أكثر من عشرة أشخاص كل عام في منطقة الجبل الأخضر شرق البلاد ومدن غات وبني وليد في غربها بسبب تهالك البنية التحتية والإهمال، فأحداث الفيضانات نتجت بسبب أن كمية الأمطار كانت كبيرة وغير متوقعة، وكان سد وادي درنة غير قادر على تحمل هذه الكمية بسبب طبيعته كسد ركامي يعتمد بالأساس على وزنه وحجمه في صد المياه، فالسد لم يكن مدعماً بالشكل الكافي“، ويضيف: “عوامل تهالك السد كانت واضحة بالعين المجردة، وكان هناك تهدم في منتصف السد وكان جميع المختصين يدركون أن السد من الممكن أن ينهار في أي لحظة، غير أن المسؤولين في المدينة لم يستمعوا لشكاوي السكان”.

محاسبة أم إفلات من العقاب

يوم السبت الماضي بتاريخ التاسع من سبتمبر، عقد عميد بلدية درنة “عبد المنعم الغيثي” اجتماعاً لبحث سبل مواجهة إعصاردانيال، وقال خلال هذا الاجتماع إن قرار إخلاء السكان يجب أن يشمل مناطق الواقعة على تخوم الوادي، وقد قام بتفويض الجهات “الأمنية” و”العسكرية” لتنفيذ هذا الإخلاء، قبل أن تتغير الإجراءات في اليوم التالي لأسباب غير معروفة، فقد أدى تخبط القرارات الحكومية في النهاية إلى فرض حظر تجوّل بدلا من اخلاء المناطق الواقعة في مجرى الوادي وهو ما أدى إلى أكبر الكوارث في تاريخ ليبيا الحديث، وهو ما حث المواطنين -من جهة أخرى- على المطالبة بإجراء تحقيق دولي مستقل، خصوصا أن خيار إخلاء المناطق المتاخمة للوادي كان مطروحا وتم تجاهله.

 وبعد أن أثبت النظام القضائي في ليبيا فشله وعدم استقلاليته، وأثبتت كل الحكومات المتعاقبة فسادها؛ فإن الليبيين لم يعودوا يثقون في التحقيقات المحلية لأنها ستكون تحقيقات منحازة.

ويقول (إبراهيم) في ختام شهادته: “كان يمكن أن نتجنب هذه الكارثة أو أن نخفف من حِدّتها على الأقل عن طريق صيانة السدود أو إخلاء السكان، ولهذا من حقنا أن نطالب بتحقيق دولي مستقل كي نقوم بمحاسبة جميع المتسببين في هذه الفاجعة؛ فنحن قد خسرنا مدينة كاملة ويجب محاسبة الجميع”.

Screenshot 2023 09 23 160900 3
قصيدة للشاعر الراحل مصطفى الطرابلسي، نشرها على حسابه الخاص بتاريخ 10 سبتمبر، 2023.

إرسال التعليق